ملخص
أثارت التعيينات الأمنية والعسكرية الجديدة التي أجرتها السلطات السورية والتي غلب عليها اللون الواحد، مخاوف جهات كثيرة من تعثر مسار قيام الدولة في سوريا.
طغى الزي المدني بربطات عنق ارتداها كبار قادة جهاز الأمن السوري الجدد على اجتماعهم الأول، وفتح الحضور شهية الشارع السوري على أسئلة تراودهم عن حياتهم وأمنهم وكرامتهم بعد زوال نظام عائلة الأسد، وحكمها البلاد بالحديد والنار طوال ما يربو على نصف قرن من الزمن، ويأمل السوريون في أن تكون سوريا الجديدة كالزهور التي وضعت على طاولة الاجتماعات التي تحلق حولها الأمنيون الجدد.
هذه طاولة لا تشبه بأية حال طاولة غرفة العمليات العسكرية التي كانت يوماً من الأيام تزدحم بملفات الحرب، والثورة على النظام البائد، في غرفة محصنة خوفاً من قصف روسي يأتي بغتة. يختلف المشهد اليوم أمام القادة في جهاز الأمن الوليد، ومعه يكبر التحدي، فهل تستطيع شخصيات عملت في مدينة كإدلب في أقصى الشمال الغربي أن تعمم تجربتها على كل المحافظات السورية وسط هواجس من أمن يتضعضع إثر الحالات الانتقامية المتزايدة، ومخاوف من قرارات أمنية لا تأخذ بالحسبان التنوع الديمغرافي والعرقي والمذهبي لسوريا المتنوعة؟
تعيين قادة أمنيين
في خطوة متقدمة أتت على حين غرة، أعلنت وزارة الداخلية السورية تعيين قادة أمنيين في جهاز الأمن الداخلي بمعظم المحافظات، غداة الكشف عن هيكلة شاملة للوزارة التي تسلمها الوزير أنس الخطاب، الشخصية المقربة من الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي تسلم قبلها إدارة المخابرات العامة.
وشملت التعيينات الجديدة ستة معاونين لوزير الداخلية، و12 ضابطاً برتب بين العقيد والعميد في عموم المحافظات السورية، فيما لم يصدر قرار بتعيين قادة في محافظات مثل الرقة والحسكة في شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر على أجزاء واسعة منهما "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد).
وسبق هذه التعيينات إحداث إدارات جديدة في هيكلة شملت كل مفاصل عمل وزارة الداخلية، ومن أبرز ما جاء في الهيكلية الجديدة دمج جهازي الشرطة والأمن العام بمسمى جديد هو "الأمن الداخلي"، وحُلّت كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي كانت قائمة في عهد النظام السابق.
وكانت البلاد سابقاً تدار بشبكة أمنية متفرعة ومعقدة ومتعددة الانتماءات عبر فروع أمن متخصصة تصب في إدارة عليا هي "إدارة الأمن السياسي" التابعة لوزارة الداخلية و"شعبة المخابرات العسكرية" (الأمن العسكري) مع "إدارة الأمن الجوي" التابعة لوزارة الدفاع، في حين كان جهاز "أمن الدولة" إدارة مستقلة، علاوة عن إدارات عليا مرتبطة بأمن الرئاسة، والفرع الخاص، وأخرى تتبع الفرقة الرابعة التي قادها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري السابق، وكان 8 ملايين سوري (ثلث سكان سوريا) مطلوبين لأجهزة الاستخبارات حتى سقوط النظام في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.
تصريحات أبو قصرة
من جهته أعلن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة الإثنين أن على قادة الفصائل المسلحة الانضمام إلى الكلية العسكرية والنجاح فيها، قبل أن يتمكنوا من نيل رتب استثنائية في صفوف الجيش الجديد الذي تعمل السلطات على تشكيله.
وفي مقابلة مع قناة "الإخبارية السورية"، قال أبو قصرة إن "القادة العسكريين ممن لديهم كفاءة عسكرية كبيرة ودور كبير في الثورة السورية، سنرسلهم إلى الكلية العسكرية، ويجب عليهم أن يخضعوا ويجتازوا الكلية العسكرية حتى نعطيهم رتبة ملازم". وأضاف، "بعدها ننقل قيود القادة العسكريين إلى لجنة مكلفة من وزارة الدفاع لمنحهم رتباً استثنائية وفق ثلاثة معايير: اجتياز الكلية، الأقدمية العسكرية، والمسمى الوظيفي".
وقال أبو قصرة إن قيادة الجيش ستتألف من قسمين: "ضباط منشقون (عن الجيش السابق) أصبحت قيودهم" لدى الوزارة التي ستشكل "لجنة لرفع مقترح بترفيعهم"، وقادة الفصائل المعارضة. وأضاف، "انتهينا من المرحلة الأولى وهي نقل الوحدات العسكرية (الفصائل) إلى وزارة الدفاع، وسنبدأ المرحلة الثانية ولها عناوين عدة أولها تنظيم القوات المسلحة بما يخص الرتب والهويات العسكرية وتفعيل الضباط والعسكريين ضمن وزارة الدفاع وتدريب القوات المسلحة".
وأوضح أن "هذه الخطوات ستحقق كفاءة للقوات المسلحة وتنقل الناس من الحالة الثورية إلى الحالة المؤسساتية"، موضحاً "سنبني جيشاً له عقيدة عسكرية وطنية يحمي الشعب السوري والجغرافيا السورية"، في وقت تسعى السلطة الجديدة إلى بسط سلطتها وضبط الأمن في البلاد.
وقال مصدر سوري، من دون الكشف عن هويته لوكالة الصحافة الفرنسية، إن السلطة السورية الجديدة وجّهت في وقت سابق رسالة إلى واشنطن تعهدت فيها "تجميد ترقيات المقاتلين الأجانب"، إضافة الى "تشكيل لجنة لمراجعة الترفيعات السابقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعيينات من لون واحد
ويجزم المدير التنفيذي لمنظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، بسام الأحمد لـ"اندبندنت عربية" بعدم وجود "أية مبررات منطقية حول تعيينات قادة أمنيين جلّهم من لون واحد"، ويرى أن الأمر يتعلق بما وصفه بـ"ولاءات" حسمت اختيار مقاتلين وقادة من "هيئة تحرير الشام" أو من المنظومة نفسها، "وذلك واضح إذ يسيطر على التعيينات اللون الإسلامي الواحد"، بحسب رأيه.
ويضيف الأحمد، "معظم المناصب الحساسة والقوية تذهب إلى شخصيات محسوبة على ’هيئة تحرير الشام‘، وتجميل بعض المناصب عبر تعيين أقليات، ولكن الواضح أن المناصب الفعالة تذهب إلى هذا التيار (الإسلامي)، فلا يوجد أي تنوع، وحتى في الحالات التي تستوجب إيجاد تنوع يُلاحظ أنه يبدو تنوعاً مزوراً، ولا يوجد تمثيل حقيقي للأكراد والعلويين والمسيحيين والدروز أو حتى للسنة المعتدلين".
ويعتقد مدير منظمة "سوريون من أجل العدالة والحقيقة" أن "ما يحدث دليل عدم ثقة، ولهذا تتسع السيطرة على مفاصل الدولة"، ويردف "من الممكن أن يؤثر ذلك في التعامل مع الغرب، وفي شكل الدولة نفسها، يمكن أن نرى تحول سوريا إلى دولة إسلامية بعد تغليب الولاءات على حساب الكفاءة، وهذا سيضر بصورة أو بأخرى بمؤسسات الدولة ويسبب مشكلات ومحسوبيات وقضايا أخرى".
في المقابل، يرى فريق من المراقبين للشأن السوري أن الواقع ليس بهذه السوداوية، في إشارة إلى وجود عنصر في "الأمن العام" من الديانة المسيحية. وكان المقاتل "جورج" قد خطف الأنظار عبر وسائط التواصل الاجتماعي بعد الكشف عن هويته، وأثار وقتها مجموعة تساؤلات حول تعميم تجربة حضور عناصر أمنية من كل مكونات المجتمع السوري في جهاز يغلب عليه التيار الإسلامي.
وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، إن "الوزارة هي جهة خدمية تضمن للشعب السلم الأهلي وسيادة القانون والأمان اللازم للتقدم"، وأضاف أن "الهيكلية الجديدة تهدف إلى بناء مؤسسة أمنية مدنية حديثة تتبنى الشفافية وتحترم المعايير الحقوقية الدولية".
في غضون ذلك حافظ الرئيس السوري أحمد الشرع منذ توليه منصبه في الـ29 من يناير (كانون الثاني) الماضي، على القادة والمقاتلين في الفصيل الذي كان يقوده أيام الثورة (هيئة تحرير الشام)، ممن حاربوا في عملية "ردع العدوان" والفصائل التي انضمت إليه، فعّين مقاتلين أجانب برتب عليا في مفاصل حساسة بالجيش، إضافة إلى تعيين مرهف أبو قصرة المقرب منه وزيراً للدفاع، كذلك عيّن نور الدين نعسان رئيساً لهيئة الأركان، إضافة إلى "أمراء" في "جبهة النصرة" في مناصب حساسة بالجيش، ومنهم غير سوريين وأبرزهم الأردني حسين الخطيب والتركي محمد جفشتي.
تغييب الضباط المنشقين
ولفت الضابط المسرّح محمد قبلان إلى تغييب واضح للضباط المنشقين أو المسرّحين قبل الثورة في جسم الجيش الجديد. وبلغ تعداد الجيش السوري قبل انهياره أكثر من 400 ألف مقاتل، بين ضباط صف ومجندين، ينتشرون عبر فرق عسكرية وتشكيلات متخصصة بحرية وجوية ومشاة.
وأضاف قبلان في حديث خاص أنه تعرض للتسريح في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد مع مجموعة من الضباط الذي وصفهم بـ"الشرفاء" بعد رفضهم تنفيذ أوامر، وتمردهم على القيادة العسكرية، وجميعم من السنّة، وقال، "بعد سقوط النظام وتحرير البلاد لا بد من جمع الضباط المنشقين والضباط المسرحين لأسباب سياسية ممن عانوا التغييب والاعتقال، وهم من الكفاءات والخبرات المهمة، وإعادة دمجهم بالجيش الجديد أو تكريمهم لما قدموه من إنجازات وصمود".
وتختصر ورقة بحثية صادرة عن مركز "ستراتيجيكس" للدراسات، الإشكالات الماثلة أمام عملية الدمج في الجيش السوري ومنها "استمرار الاعتماد على اقتصادات غير مشروعة، وتلقي دعم مالي ولوجستي من مصادر خارجية لا سيما الجيش الوطني السوري الذي يعتمد في تمويله على تركيا".
في الأثناء تحمل الفصائل المنضوية تحت جناح وزارة الدفاع، باسم الجيش السوري الجديد، أيديولوجيات مختلفة. ويرى مراقبون في بقاء رايات تلك الفصائل ولباسها الخاص بها، وبعضها يحمل أعلام "القاعدة" وشعاراتها، أكبر تحدٍّ يؤرق الدمج الصحيح، إذ لم تندمج الفصائل مع بعضها بعضاً بتشكيل عسكري واحد، بل حدث تغيير في اسم الفصائل إلى أسماء فرق عسكرية وعلى سبيل المثال تغير اسم "لواء سلطان مراد" أو ما يسمى "العمشات" إلى "الفرقة 25" وهي فرقة مهمات خاصة.
وقال متخصص عسكري، فضل عدم ذكر اسمه، إنه "من الضروري إذابة الولاءات كلها في ولاء واحد، هو الجيش السوري الجديد فقط، كذلك فإن الاستعانة بالأكاديميين والخبرات من قادة الجيش أمر في غاية الأهمية، لأن في ذلك تعويلاً على تدريب الجسم الجديد وتوحيد لباسه ورايته، ومنع حمل راية غير راية الدولة السورية".