ملخص
50 عاماً مرّت منذ أن جرّ "اتفاق القاهرة" المشؤوم لبنان إلى دوامة السلاح غير الشرعي، فتحولت المخيمات الفلسطينية إلى دويلات مسلحة تآكلت معها سيادة الدولة وانزلق البلد إلى حرب أهلية طويلة، بينما كانت مصر والأردن تعقدان سلاماً مع إسرائيل، وسوريا تُسكت جبهتها، وطوال عقود استخدم السلاح داخل لبنان أكثر مما وجه نحو فلسطين، ثم التحق بالمحور الإيراني عبر "حماس" و"حزب الله" فصار تهديداً دائماً للمدن اللبنانية.
منذ عام 1969، لحظة توقيع ما سمي بـ "اتفاق القاهرة"، كُتب على لبنان أن يتحمل ما لا يتحمله أي بلد في العالم، أن يسلب حقه السيادي على أراضيه وأن تتحول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين إلى دويلات داخل الدولة، وأن يصبح البلد الصغير الممزق ساحة حرب مفتوحة باسم "القضية".
هذا الاتفاق المشؤوم الذي فرض على لبنان تحت ضغط الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وباركه النظام الناصري في مصر، لم يكن اتفاقاً سيادياً بين دولتين بل تفويضاً مكشوفاً للجماعات المسلحة بأن تفعل في لبنان ما لم تجرؤ على فعله في أي بلد آخر، ونعم هو اتفاق "الخيانة العظمى"، لا للوطن اللبناني وحسب، بل للقضية الفلسطينية نفسها.
"وطن بديل"
منذ تلك اللحظة لم يعد لبنان وطناً لشعبه بل تحول إلى منصة عسكرية وقاعدة انطلاق ومعسكر تدريب ومقر تمويل وخط تماس دائم، ولم تكن بيروت ولا صيدا ولا صور ولا طرابلس بمنأى عن التهديد اليومي الناجم عن هذا السلاح الثوري الذي بدأ تحت عنوان "الكفاح المسلح" وانتهى بانفجار حرب أهلية دامية مزقت البلاد ودمرت الدولة.
وفي وقت كان لبنان يتخبط في الدم والانقسام والخراب، كانت القاهرة تبرم اتفاق سلام مع إسرائيل في "كامب ديفيد" عام 1979، وتبعها الأردن باتفاق "وادي عربة عام 1994، أما سوريا فعرفت كيف تبرد الجبهة وتحول الصراع إلى لعبة مصالح وتوازنات مع الأميركيين والإسرائيليين في آن، وحده لبنان ترك للجحيم، وحده لبنان فرض عليه أن يقاتل بالنيابة وأن يدفع ثمن الصراع العربي - الإسرائيلي بالكامل، من دون أن يُسأل إن كان يريد هذه الحرب أصلاً.
لم يحرر شبراً لكنه دمر دولة
وما لم يُقل بما يكفي هو أن هذا السلاح الفلسطيني في لبنان لم يحرر شبراً واحداً من فلسطين، لكنه حول الشوارع اللبنانية إلى متاريس والمخيمات إلى ساحات اقتتال بين "فتح" و"الصاعقة"، وبين "حماس" و"فتح"، وبين "فتح الإسلام" و"فتح"، وبين الجماعات السلفية والتكفيرية، وبين المرتزقة الذين استخدموا عنوان القضية ستاراً لأجندات إقليمية ودولية.
من "عين الحلوة" إلى "الرشيدية"، ومن "برج البراجنة" إلى "البداوي"، لم يعد هناك مخيم لاجئين بل كيانات أمنية مستقلة تمارس فيها جماعات مسلحة سلطتها تحت أنظار الدولة العاجزة، وأحياناً بمباركة بعض من مؤسساتها، وتحول المخيم إلى قاعدة خلفية لكل طامح للاغتيال أو الاختباء أو التسليح أو التهريب أو التخريب.
وخلال الأعوام الأخيرة برزت محاولة ممنهجة لإعادة صياغة واقع المخيمات على "النمط الغزاوي"، أي تحويلها إلى مربعات أمنية خاضعة لحركة "حماس"، لا لسلطة "منظمة التحرير"، وكان هذا المسعى مدعوماً من "حزب الله"، رأس الحربة في المشروع الإيراني في لبنان، الذي وجد في "حماس" و"الجهاد الإسلامي" شريكين عقائديين وسلاحاً رديفاً جاهزاً للاستخدام متى دعت الحاجة، لا لتحرير فلسطين بل لمزيد من الإطباق على ما بقي من الدولة اللبنانية.
وهكذا تحول السلاح الفلسطيني من أداة مقاومة إلى أداة تمكين في يد "الحرس الثوري" الإيراني، والمفارقة أن الفلسطينيين أنفسهم كانوا أولى ضحاياه في لبنان، اغتيالات وتصفيات واشتباكات وتفجيرات وكمائن دموية، أما اللبنانيون فاستباح هذا السلاح أمنهم وأعاق مسار بناء الدولة لعقود.
زيارة عباس فرصة تاريخية
ومع زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان اليوم وما أعلنه الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون من أن "لبنان لن يكون بعد اليوم ساحة لحروب الآخرين"، آن الأوان لوضع النقاط على الحروف، ويجب أن يعلن صراحة وبصوت عال وموقف رسمي ألا سلاح خارج المخيمات ولا سلاح داخل المخيمات ولا استثناء تحت أي عنوان، ويجب أن يعلن دفن "اتفاق القاهرة" دفناً نهائياً لا رجعة فيه، لا مجرد الاكتفاء بإلغائه شكلياً كما جرى خلال تسعينيات القرن الماضي، بل بإغلاق ملفه تماماً على مستوى النص والمضمون، وعلى مستوى الوقائع الأمنية والعسكرية على الأرض اللبنانية.
لبنان ليس خيمة متنقلة لمن لا وطن له، ولا هو ممر إجباري لمن أراد الحرب أينما يشاء، لبنان له حدوده وكرامته وسيادته، ومن يريد أن يدافع عن فلسطين فليذهب إلى فلسطين، ومن يريد أن يقاتل فليفتح جبهة من أرضه لا من أرضنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إعادة توزيع الفلسطينيين
وإذا كانت زيارة عباس تفتح الباب لإقفال حقبة دامية فإن المشهد الإقليمي والدولي اليوم يمنح لبنان فرصة تاريخية موازية، فمع ما يحكى في أروقة القرار الغربي وضمن طروحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول إعادة ترتيب الملف الفلسطيني بالكامل، تُطرح جدياً مشاريع لإعادة توزيع اللاجئين الفلسطينيين في الشتات إلى دول ثالثة، وقد تكون هذه المبادرة، إذا نفذت بمسؤولية وشراكة، فرصة نادرة للفلسطينيين المقيمين في لبنان للخروج من واقع البؤس والإغلاق والانطلاق نحو مستقبل أفضل في دول تمنحهم حقوقاً وفرصاً، وفي الوقت نفسه تشكل خلاصاً للبنان من عبء ديموغرافي واقتصادي وأمني تحمّله لعقود بلا أية قدرة على استيعابه أو تنظيمه، فهذه لحظة واقعية يجب ألا نخجل من تسميتها كما هي، فلبنان لم يعد قادراً على حمل هذا العبء، لا بسبب عنصرية أو تنكر لحق العودة، بل لأن الدولة اللبنانية تحتضر تحت ضغط أزمات وجودية، ولسنا مؤهلين لمزيد من الحروب والضغوط والانفجارات.
لا سلاح بعد اليوم
لا يحق لأي تنظيم، فلسطيني أو غير فلسطيني، أن يبقى مسلحاً على الأرض اللبنانية تحت أي ذريعة، وكفى ذرائع و كفى نفاقاً وكفى تواطؤاً باسم المقاومة، فالمقاومة الحقيقية هي في أن نبني دولة لا أن ندمرها، وفي أن نحمي حدودنا لا أن نستباح من الداخل، فلبنان دفع ثمناً كبيراً، دُمر اقتصاده وقُتل أبناؤه واُغتيل قادته و شُرد شعبه وتفككت مؤسساته واحترق حاضره ومستقبله، وكل ذلك باسم قضية حملت أكثر مما تحتمل وتحولت إلى يافطة فارغة تستخدم لاستباحة لبنان، ثم تركت على قارعة الانهيار.
على الدولة اللبنانية أن تحزم أمرها، وعلى كل مسؤول أن يتخذ موقفاً واضحاً، وعلى كل حزب وقائد وسلطة أن يقول بوضوح لا سلاح بعد اليوم، لا كفاح مسلح على حساب سيادة لبنان، ولا تحرير على حساب وحدة الدولة، ولا منصة لغير الجيش اللبناني.
أما الشعب اللبناني فعليه أن يستعيد صوته ويرفض بقاء السلاح في يد الميليشيات، وأن يقول بوضوح "نعم للحق الفلسطيني ولا لانتحار لبنان تحت هذا العنوان، ونعم للسلام العادل لا للفوضى الدائمة".