ملخص
خطة لترحيل مليون فلسطيني من غزة إلى ليبيا مقابل الإفراج عن أموال مجمدة توازي في وحشيتها مشاريع التطهير العرقي. إسرائيل تمضي في حملتها بدعم غربي مكشوف، وسط تواطؤ بريطاني وصمت دولي يعيدان إلى الأذهان فظائع رواندا، وينذران بكارثة تمتد آثارها لعقود
أفادت التقارير بأن الخطة الأخيرة المنسوبة لدونالد ترمب لإنهاء الكارثة الجارية في غزة تتمثل في محاولة ترحيل مليون من سكان غزة البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة إلى ليبيا، في مقابل الإفراج عن 30 مليار دولار من الأصول الليبية المجمدة. هذه الفكرة عبثية بقدر ما هي لا أخلاقية.
يبدو أن هذا الطرح لا ينفصل عن حملة يقودها البيت الأبيض لتكريس الحملة الإسرائيلية كأمر طبيعي ومشروع، التي تقوم باستخدام القنابل والرصاص والتجويع والتدمير الجماعي للمنازل واستهداف المستشفيات والطواقم الطبية، لجعل غزة غير صالحة للعيش.
وفي هذا السياق، وصفت الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية بأن ما يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي وجيشه لا يقل عن كونه إبادة جماعية أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، وهنا لا يحتاج المرء إلى نقاش قانوني حول المصطلحات لمعرفة ما يحدث فعلاً هناك.
يعتبر النقاد بأنها حملة تدعمها بريطانيا من خلال قيامها بتصدير مكونات الأسلحة إلى إسرائيل وتنظيم رحلات لطائرات تجسس تحلق فوق غزة بالتنسيق مع سلاح الجو الإسرائيلي. باختصار، المملكة المتحدة متواطئة في ارتكاب إسرائيل فظائع ضد المدنيين. وسيحاسب التاريخ رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وحكومته على هذا التواطؤ، كما سيفعل الشعب البريطاني أيضاً.
هناك ازدواجية في المعايير بين دعم أوكرانيا بذريعة أخلاقية في مواجهة فلاديمير بوتين القاتل، ودعم حملة نتنياهو، على نحو خاطئ، ضد المسلمين ذوي البشرة الداكنة. كثيرون سيتهمون المملكة المتحدة بالعنصرية.
قد نتفهم بأن إسرائيل شعرت بغضب عارم وألم شديد نتيجة لهجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 الذي نفذته "حماس" ومؤيدوها، إذ تعمدت "حماس" ارتكاب الفظائع بهدف استدراج رد فعل غير متكافئ، وحصلت على ما أرادت.
أما اليمين المتطرف في إسرائيل، فاستغل الحملة الجارية في غزة ليؤكد أن الهدف بعيد المدى، مع تصعيد القوات البرية لعملياتها مجدداً، هو "غزو" القطاع، وصرح نتنياهو بأنه يريد أن يرى "إجلاء طوعياً" لسكانه. القوات البرية الإسرائيلية ستبقى في قطاع غزة إلى أجل غير مسمى، إذ قال: "لن يدخلوها ثم يخرجون منها".
الأمر سيئ من الناحية الأخلاقية بقدر ما هو سيئ بالنسبة إلى إسرائيل التي فقدت حقها في الادعاء بأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، إذ عمدت إلى الاستيلاء على مساحات شاسعة من الضفة الغربية لصالح مستوطنات مخصصة للإسرائيليين وحسب، وفرضت نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين، فضلاً عن تقييد حقوق الشعب الفلسطيني الأصلي في سائر الأراضي.
في عام 2021، صرحت منظمة "بتسيلم"، وهي أبرز منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل، بما يلي "يطبق النظام الإسرائيلي نظام فصل عنصري (أبارتهايد) في جميع الأراضي التي يسيطر عليها (المناطق الخاضعة لسيادة إسرائيل والقدس الشرقية والضفة الغربية، وقطاع غزة). ويرتكز هذا النظام على مبدأ تنظيمي واحد يشكل أساس مجموعة واسعة من السياسات الإسرائيلية: تعزيز وترسيخ سيادة فئة واحدة - اليهود - على فئة أخرى - الفلسطينيين".
واتهمت المنظمة حكومة بلدها بارتكاب "التطهير العرقي" في غزة.
عامي أيلون هو الرئيس السابق لجهاز الشاباك (الأمن الداخلي) الإسرائيلي وتقوم الوكالة بالتجسس على الفلسطينيين، وتسهم في تصفية قوائم "الإرهابيين" المزعومين، وأحياناً تقتلهم بنفسها.
وصرح متحدثاً عن الحرب الإسرائيلية في غزة قائلاً بأن الحرب "ليست حرباً عادلة"، وإن استمرارها يهدد بانهيار إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية. "نحن نعرض أمننا للخطر إذا لم نوقف هذه الحرب".
في مقابل ذلك، لا يمكن لكير ستارمر ووزراءه القول إنهم لا يعرفون ما يحدث. وبالتالي، عليهم أن يصرحوا جهاراً وبصريح العبارة أن ذلك يجب أن يتوقف فوراً، وكذلك عليهم إنهاء أي دور تلعبه المملكة المتحدة في هذا السياق.
يكتفي ستارمر بوصف منع إسرائيل للمساعدات عن غزة بأنه "غير مقبول"، متجاهلاً تدمير 80 في المئة من البنية التحتية في القطاع ومقتل ما يزيد على 52 ألف شخص، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال.
في المقلب الآخر، يرزح بوتين فعلاً تحت عقوبات دولية، ولا تستطيع بلاده استيراد أي شيء من أوروبا أو المملكة المتحدة أو أميركا من شأنه أن يسهم في حربه في أوكرانيا. فقد أقدم القتلة الذين يقودهم بوتين على قتل عدد أقل بكثير من المدنيين (12,500 في الأقل) مقارنة بما ارتكبته قوات الدفاع الإسرائيلية.
حالياً، لا يدور أي حديث عن فرض عقوبات على إسرائيل بسبب ما يحدث في غزة، وفي هذا السياق تساءل توم فليتشر الدبلوماسي البريطاني السابق ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، أمام مجلس الأمن قائلاً: "هل ستتحركون بصرامة لمنع الإبادة الجماعية في غزة وضمان احترام القانون الإنساني الدولي؟".
لم يأت الجواب من المملكة المتحدة، بل من السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة داني دانون، الذي وصف سؤال فليتشر بأنه "تصريح غير مسؤول ومتحيز وينسف أي مفهوم بالحياد".
يصادف أنني أكتب هذه السطور من منطقة البحيرات العظمى في أفريقيا، إذ شهدت رواندا، قبل 31 عاماً أسرع وأشد مذبحة جماعية في التاريخ منذ محرقة الهولوكوست. وقتل الناس بمعدل نحو 10 آلاف شخص يومياً، في محاولة متعمدة من ميليشيات "الهوتو" المتطرفة للقضاء على أقلية التوتسي في البلاد.
حينها، رفضت بريطانيا والولايات المتحدة استخدام مصطلح "إبادة جماعية" لما كان يحدث حتى لا تضطر إلى التدخل لوقف المذبحة في ظل القانون الدولي، بقي العالم صامتاً ولم يحرك ساكناً حتى نجح جيش التوتسي المتمرد في وقف عمليات القتل في رواندا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيد أن المذبحة لم تتوقف على رغم ذلك، بل امتدت إلى زائير المجاورة، المعروفة الآن بجمهورية الكونغو الديمقراطية. وساد هوس بالقتل أو التعرض للقتل في معظم أنحاء البلاد الشاسعة. وأسهم ذلك في جر الدول المجاورة إلى حرب ضروس أودت بحياة نحو 5 ملايين شخص، ولا تزال مستعرة حتى اليوم. كان من السهل نسبياً التدخل لإيقاف الإبادة الجماعية عام 1994، لكن التعامل مع الأهوال التي أعقبتها كان شبه مستحيل.
الدرس المستخلص من غزة هو أن الفشل في وقف المجازر الجماعية هناك، ستكون له تبعات كارثية وطويلة الأمد وعنيفة.
لن ينسى الفلسطينيون خطط ترمب لنفيهم إلى دول أخرى كالأردن أو مصر أو كليهما ونقل سكان غزة الذين شرذمتهم الحرب إلى مناطق أخرى، حتى يتمكن من تحويل الأرض التي خلفوها وراءهم إلى منتجع ساحلي.
واليوم، وبحسب ما أفادت به قناة "أن بي سي نيوز" NBC News، يقترح ترمب أن يتاجر بسكان غزة كما لو كانوا جمالاً، مع ليبيا. وذلك عبر رشوة الدولة المنهكة بضخ 30 مليار دولار من أموالها المجمدة، في مقابل أن تستقبل ملايين الفلسطينيين المشردين.
الفكرة مجنونة إلى حد يجعل الإشارة إلى استحالة تنفيذها أمراً يكاد يكون غير ضروري، فحكومة ليبيا لن تقبل بها، والدول الأوروبية ستسقطها فوراً لأنها تعني نقل ملايين الأشخاص إلى نقطة انطلاق للهجرة غير الشرعية إلى أراضيها. أما وكالات الاستخبارات، فستستشيط غضباً، إذ يعني ذلك إرسال الحشود الدامية من ضحايا إسرائيل مباشرة إلى أحضان تنظيم القاعدة.
لكن هذه الطروحات تخدم حكومة نتنياهو، لأنها توحي بأن أشخاصاً جادين، من داخل الحكومات، باتوا يطرحون السؤال: "إذا لم تكن مصر، وإذا لم تكن الأردن، وإذا لم تكن ليبيا، فأين إذاً؟".
ويجب أن يكون جواب بريطانيا "لا مكان سوى غزة"، وأن تطالب بصوت عال بإنهاء القتل الجماعي، وعمليات التهجير القسري، والاستيلاء غير القانوني على أراضي الضفة الغربية. قد يكون التحرك الآن متأخراً جداً بالنسبة إلى عدد كبير من سكان غزة، لكنه قد يساعدهم، وربما يساعد إسرائيل أيضاً، على المدى الطويل.
© The Independent