ملخص
بدأت قوى عسكرية كبيرة في طرابلس وبنغازي إعادة التموقع وحشد التجهيزات، مما أثار مخاوف من اندلاع صدامات جديدة في الفترة المقبلة، وتلك خريطة القوى الكبرى في البلاد.
كانت الأحداث والاشتباكات الأخيرة التي شهدتها العاصمة الليبية بمثابة هزة عنيفة ومفاجئة كسرت الجمود الذي سيطر على المشهد العام خلال العامين الأخيرين، وأعادت خلط الأوراق بصورة كاملة، خصوصاً على الخريطة العسكرية، ليس في طرابلس فقط بل في ليبيا كلها.
المخطط والمنفذ للعملية العسكرية التي تسببت باشتباكات دامية في طرابلس، رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، كان أول المتأثرين بتوابعها، بخاصة أن نتائج خطته لم تكن كما أراد واشتهى، بل إنها أضعفت موقفه وهوت بشعبيته في الشارع، لذلك يحاول إعادة ترتيب تحالفاته العسكرية وبناء تحالفات مع قوى جديدة تحسباً لأية محاولة لإسقاط حكومته بقوة السلاح.
صراع جديد في العاصمة
قراءة الخريطة الجديدة للنفوذ والقوى العسكرية في ليبيا لا بد أن تبدأ من أهم وأشد بؤر الصراع وهي طرابلس، مهوى أفئدة الطامحين والمتصارعين على السلطة والنفوذ السياسي والعسكري، وهي خريطة لم تعد كما كانت قبل شهر واحد، حينما كان آمر كتيبة الدعم والاستقرار الراحل عبدالغني الككلي "غنيوة" يصول ويجول ويأمر وينهى، فبعد رحيله تطاولت رؤوس كثيرة لملء الفراغ الكبير الذي خلفه، بما فيه من نفوذ وجاه وثروات واسعة.
في طرابلس ما بعد غنيوة تبرز ثلاث قوى مسلحة بارزة حصل بينها صراع تمهيدي للسيطرة على المدينة في الأيام التي تلت مقتله: "قوة الردع" التي يقودها الأصولي السلفي عبدالرؤوف كارة، والكتيبة 444 قتال بقيادة محمود حمزة، وجهاز التمركزات الأمنية الذي يقوده وزير الداخلية الحالي في حكومة الدبيبة عماد الطرابلسي. مع انتشار لكتائب مسلحة أخرى أقل نفوذاً وقوة مثل كتيبة "أسود تاجوراء"، وكتيبة "فرسان جنزور"، وغيرهما.
الكتائب الثلاث الأقوى حالياً في طرابلس، اثنتان منها تواليان بالكامل حكومة "الوحدة الوطنية" وهي الكتيبة 444 قتال، وجهاز التمركزات الأمنية، وقد بدأت في اليوم الثاني لمقتل عبدالغني الككلي صراعاً مسلحاً للسيطرة على طرابلس، مع الثالثة وهي "كتيبة الردع"، التي انتصرت في جولته الأولى، ويتوقع أن تتبعها جولات أخرى في الفترة المقبلة.
والكتائب الثلاث هي مجموعات مسلحة أُسست بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، وضمت بعد ذلك في أوقات مختلفة لوزارة الدفاع أو الداخلية، وأعيدت هيكلتها أكثر من مرة بقرارات رسمية، وزودت بالمال والعتاد والتدريب في الأعوام الأخيرة حتى تضخمت قوتها وتوسع نفوذها أضعاف ما كانت عليه عقب نشأتها.
جهاز الردع
يعتبر "جهاز الردع"، وهو مجموعة شبه عسكرية، من أقوى الكتائب المسلحة في طرابلس، ويقوده عبدالرؤوف كارة ذو التوجهات الدينية السلفية، وكان في بداية نشأته متمركزاً في منطقة سوق الجمعة، قبل أن يتوسع ليسيطر على مناطق مهمة ومؤسسات حيوية مثل مطار معيتيقة، وهو المطار الوحيد الذي يعمل في طرابلس، كما يحمي مؤسسات بارزة، مثل مصرف ليبيا المركزي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توسع نفوذ ومكانة الجهاز أكثر بعدما أصدر المجلس الرئاسي لحكومة "الوفاق الوطني" برئاسة فايز السراج عام 2018 قراراً بإعادة هيكلة "قوة الردع" الخاصة، وغير تسميته إلى "جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب"، ومنحه صلاحيات موسعة، إذ أعطى أعضاءها صفة مأموري الضبط القضائي وتعقب العصابات الإجرامية والجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية، والمشاركة في تنفيذ السياسة الأمنية للدولة، وتخصيص مصادر لتمويل الجهاز، بحسب ما ورد في القرار المذكور لإعادة هيكلة الجهاز.
ويسيطر الجهاز على سجن معيتيقة، وهو سجن به شخصيات خطرة بينهم قيادات في تنظيم "داعش"، ومنهم قائد التنظيم والمسؤول عن مجزرة الأقباط في سرت عام 2014 هاشم بوسدرة، ومجموعة أخرى من أخطر المجرمين في ليبيا ومن كبار المهربين وتجار المخدرات.
ويعد الجهاز حالياً خارجاً عن سيطرة حكومة عبدالحميد الدبيبة بل وخصماً لها، لكن ولاءه يبقى مبهماً، وتربطه تقارير كثيرة بعلاقات مع أطراف متعددة في الداخل والخارج، أبرزها قيادة الجيش في بنغازي برئاسة خليفة حفتر.
اللواء 444 قتال
كان هذا اللواء وآمره محمود حمزة يتبع "جهاز الردع" بقيادة عبدالرؤوف كارة حتى عام 2019، عندما رفض الأخير المشاركة في صد هجوم الجيش بقيادة خليفة حفتر على طرابلس، فانشق عنه حمزة ومئات من المقاتلين ليؤسس اللواء 444 قتال، ويتمركز في معسكر التكبالي جنوب العاصمة طرابلس، قبل أن يضم عسكريين نظاميين قدامى منذ فترة حكم القذافي، ويجند ويدرب عدداً كبيراً من المجندين الجدد.
يتبع اللواء حالياً وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، ويمارس مهام كثيرة كالتأمين والحماية ومكافحة الجريمة وتهريب الوقود والاتجار بالبشر، ويعد حالياً أبرز وأقوى الأجنحة العسكرية للحكومة في العاصمة.
جهاز الأمن العام
كان هذا الجهاز قبل أعوام مضت، كغيره من القوى العسكرية الكبيرة في طرابلس، كتيبة صغيرة تسمى "الصواعق" بقيادة عماد الطرابلسي، الذي ينحدر من مدينة الزنتان جنوب غربي طرابلس، وبعد هزيمة الكتيبة في حرب "فجر ليبيا" عام 2014 ضد قوات مصراتة، عاد بها الطرابلسي إلى مدينته ليكون منها قوة عرفت بـ"قوة العمليات الخاصة".
حصلت الكتيبة على الصفة الرسمية للمرة الأولى في يوليو (تموز) 2018، عندما أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني قراراً بإنشاء "جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية"، ويتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة ويتبع وزارة الداخلية ويرأسه الطرابلسي، الذي بقي على هرم الجهاز حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، عندما كلفه الدبيبة برئاسة وزارة الداخلية، ليخلفه شقيقه عبدالله الطرابلسي على رأس قيادته.
ويؤدي الجهاز أدواراً أمنية مهمة لمصلحة الحكومة في طرابلس حالياً، منها دوره في كبح جماح التظاهرات الشعبية التي تخرج ضدها في العاصمة بعد الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها قبل أسبوعين.
تحالفات جديدة
ويبدو أن رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة، يرى أن هذه الكتائب غير كافية لحمايته من أخطار خصومه داخل طرابلس وخارجها، لذلك بدأ بصورة معلنة في بناء تحالفات عسكرية جديدة مع أطراف مؤثرة من مدينته مصراتة، التي تحوي أكبر قوة عسكرية في الغرب الليبي، وأيضاً من مناطق غرب طرابلس، وتحديداً ورشفانة والزاوية.
يرى الباحث والأكاديمي الليبي محمد العنيزي أن للدبيبة أسباباً واضحة دفعته إلى العمل على بناء تحالفات جديدة في هذه المناطق، و"من الجلي أنه يريد أن يؤمن نفسه بهذه التحالفات من أعداء الخارج أو القادمين من خارج طرابلس، وهم قوات الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، الذي يسيطر على وسط وجنوب غربي ليبيا، ويمكن أن يزحف على طرابلس هدفه القديم، لذلك يحاول الدبيبة بناء سد دفاعي عسكري في مصراتة لمواجهة قوات الجيش في الوسط وورشفانة والزاوية، بوابات العاصمة الغربية، ودرء هذا الخطر".
وأضاف "كلتا القوتين اللتين استعان بهما الدبيبة لا يستهان بهما، ففي مصراتة يقدر عدد المقاتلين بقرابة 40 ألفاً يتبعون رئاسة أركان المنطقة الوسطى التابعة لوزارة الدفاع في حكومته، وهو يعمل حالياً على حل بعض الخلافات مع بعضهم لكسب ولائهم بالكامل، والتقى بشكل معلن مع أقوى قائد عسكري في ورشفانة بعقر داره وهو معمر الضاوي، الرجل الذي يسيطر على المدينة بصورة شبه كاملة لحماية ظهره في نواحي غرب طرابلس".
تجهيز في الشرق
في شرق ليبيا، كشفت الأيام الأخيرة أيضاً عن تحركات واستعراض قوى كبير لقوات الجيش الذي يقوده خليفة حفتر ويتبع مجلس النواب، فسرت بأنها تمهيد لعمل ما استغلالاً لحال الارتباك والتفكك والصراعات في غرب ليبيا.
وفي الذكرى العاشرة لانطلاق معاركه ضد المجموعات المسلحة وتنظيم "داعش" في بنغازي، قامت قوات الجيش التابعة لخليفة حفتر باستعراض عسكري عرضت فيه مجموعة من الأسلحة الجديدة التي يبدو أنها تحصلت عليها أخيراً في كل القطاعات العسكرية البحرية والجوية والبرية، وبدا أنها لم تحشد من دون غرض ما لم يحدد بعد، أو أنه محدد ولم يعلن عنه.
ويسيطر حفتر فعلياً على أكثر من ثلثي التراب الليبي، ممثلاً في الشرق كاملاً حتى سرت بالوسط، والجنوب بصورة كلية، ويقدر عدد الجنود التابعين له، بحسب تقارير محلية ودولية، بأكثر من 70 ألفاً، تخرج عدد كبير منهم بعد تدريبهم داخل البلاد وخارجها في دورات مستمرة خلال الأعوام الخمسة الماضية، مما يجعله الطرف الأكثر تجهيزاً بالعتاد والعدة، بحسب آراء مراقبين كثر للمشهد الليبي.
ونجح حفتر أخيراً في تحييد أهم عائق منع دخوله إلى طرابلس أثناء حملته العسكرية عليها ما بين عامي 2019 و2020، وهو تركيا التي منحها عقوداً تنموية ضخمة في شرق ليبيا، وتشير تقارير متواترة إلى أن أنقرة بدأت فعلياً في سحب قواتها من مناطق حيوية بغرب البلاد، أهمها "قاعدة الوطية"، أكبر معاقل وجودها العسكري في غرب ليبيا.