ملخص
كانت كييف تعلن سابقاً على الدوام أن النزاع سيستمر حتى تستعيد أوكرانيا حدودها التي رسمتها عام 1991، ولكنها أصبحت أثراً بعد عين في الوقت الراهن، لذلك فإن الأمل في التوصل إلى حلول سياسية مقبولة، ولو على مضض للأزمة الأوكرانية، يزداد وينتعش كلما جنح الجنرالات نحو السلام، حنى لو كان السياسيون يرغبون في مزيد من الحروب وسفك الدماء.
تضاربت الآراء في روسيا وأوروبا والعالم أجمع حول طبيعة المبادرة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمناسبة الاحتفالات بـ"يوم النصر" في التاسع من مايو (أيار) الجاري، فمنهم من اعتبر أن الرسائل الرئيسة كانت أن الحرب في أوكرانيا هي استمرار للحرب العالمية الثانية التي يسميها الروس "الحرب الوطنية العظمى"، وأن على روسيا أن تحارب النازية التي اجتاحت أوروبا بأكملها مرة أخرى، وآخرون رأوا في طرح زعيم الكرملين عرض سلام حقيقي ولكن بشروط "الدب الروسي" الذي يرغب دوماً في استسلام فريسته من دون كثير عناء.
ويوم الـ23 ممن مايو أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مواصلة روسيا صياغة مذكرة التسوية مع أوكرانيا، واستعدادها لنقل مقترحاتها إلى كييف في كل الأحوال. وأوضح خلال كلمته في مؤتمر "الأراضي التاريخية لروسيا الجنوبية، الهوية الوطنية وتقرير مصير الشعوب"، "نعم، نحن مع المفاوضات. نعم، ستكون هناك جولة ثانية من المفاوضات. وقد أكد الطرف الآخر ذلك، وهذا في حد ذاته تطور إيجابي".
وتابع الوزير الروسي "العمل جارٍ على المذكرة. لا أعرف مدى تقدم الجانب الآخر، لكن عملنا في مرحلة متقدمة بالفعل. سنقوم في مختلف الأحوال بتسليم هذه المذكرة للأوكرانيين كما اتفقنا، ونأمل في أن يفعلوا الشيء نفسه".
وكان دميتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الكرملين أعلن أن العمل على مذكرة التفاهم حول معاهدة السلام المستقبلية مع أوكرانيا يسير بوتيرة ديناميكية.
وكان الرئيس الروسي قد أعلن في أعقاب المكالمة الهاتفية التي جرت في الـ19 من مايو مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن "موسكو مستعدة للعمل مع كييف على صياغة مذكرة تفاهم حول معاهدة سلام مستقبلية، والتي قد تشمل، ضمن أمور أخرى، مسألة وقف إطلاق النار ومبادئ تسوية النزاع". وفي الوقت نفسه أكد زعيم الكرملين استعداده لإجراء مفاوضات مباشرة مع أوكرانيا في شأن السلام الطويل الأمد بمجرد القضاء على "أسباب الصراع". لكن موسكو لم تسمح بهدنة أو وقف لإطلاق النار خلال المفاوضات أو محادثات السلام الطويلة الأمد، والتي أطلق عليها الخبراء الغربيون بالفعل اسم "محادثات الاستسلام". لأن استسلام أوكرانيا هو بالضبط ما يعنيه "القضاء على أسباب الصراع"، بحسب التفسير الغربي لهذه العبارة الحمالة لأوجه عدة.
مفاوضات سلام أم عرض استسلام؟
في المحادثات الأخيرة التي جرت في تركيا يوم الـ16 من مايو، صاغ الوفد الروسي في إسطنبول مطالبه كشروط أساسية للتوصل إلى تسوية سلمية نهائية، وأكد أنه يجب على أوكرانيا الوفاء بها قبل أن توافق روسيا على وقف إطلاق النار. وقدم وفد بوتين، مرة أخرى، اقتراحات وشروطاً تشبه إلى حد كبير طلب استسلام أوكرانيا من دون قيد أو شرط. وتعتقد صحيفة "التايمز" أن شروطه شملت تغيير السلطة في أوكرانيا، ورفض الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والتنازلات الإقليمية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم وأربع مناطق أخرى ضمتها روسيا في خريف عام 2022.
قبل ذلك، في الـ10 من مايو، قدمت أوكرانيا وقادة أوروبيون إلى الاتحاد الروسي طلباً بوقف إطلاق نار شامل وغير مشروط لمدة 30 يوماً، بدءاً من الـ12 من مايو. رداً على ذلك، اتهم فلاديمير بوتين أوكرانيا، ليلة الـ11 من مايو، بانتهاك هدنة "عيد الفصح" و"الهدنة الاحتفالية"، التي أعلنتها روسيا من جانب واحد من دون تنسيق مع كييف ليتاح لها الاحتفال بـ"عيد النصر" في 9 مايو واستقبال عشرات القادة الدوليين، ثم طرح بدء محادثات سلام مباشرة مع أوكرانيا. وفي وقت لاحق، أوضحت وزارة الخارجية الروسية أن الكرملين يريد أولاً إجراء مفاوضات في شأن السلام النهائي، وبعد ذلك فقط التوصل إلى وقف إطلاق النار.
وقال يوري أوشاكوف مساعد بوتين إن المفاوضات يجب أن تستند إلى التطورات التي أعقبت بداية النزاع عام 2022، أي الاستجابة لمطالب روسيا الاتحادية التي تفترض بصورة أساسية استسلام أوكرانيا والاعتراف "بالحقائق على الأرض"، أي الاعتراف بالأراضي المحتلة والأجزاء غير المحتلة من أربع مناطق أوكرانية أعلنت موسكو ضمها إلى أراضيها.
وكتبت صحيفة "آسيا تايمز"، "إذا لم يحدث تقدم سريع في محادثات أوكرانيا، أو لم تحقق روسيا مكاسب كبيرة على أرض المعركة، فقد تنهار عملية السلام". وأشارت الصحيفة إلى أن القيادة الأميركية أعربت مراراً وتكراراً عن استيائها من موقف روسيا في شأن إنهاء الصراع في أوكرانيا وهددت بفرض عقوبات. وفي الوقت نفسه تعارض موسكو وقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً. وفي هذا الصدد، تستعد واشنطن لسيناريو تصعيد الصراع، وقد تتصاعد "الحرب بالوكالة" بين الولايات المتحدة وروسيا قريبا، بحسب ما كتبت "آسيا تايمز".
وفي وقت سابق، صرح السكرتير الصحافي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف، بأنه من غير المجدي الضغط على موسكو في شأن التسوية الأوكرانية. وقال المتحدث باسم الكرملين إن روسيا لن "تضطر إلى التوقف" بسبب التهديد بفرض عقوبات جديدة، ولذلك رفضت عرضاً غربياً بالموافقة على هدنة مدتها 30 يوماً.
بوتين ينسف خطة ترمب
وتتناقض معظم هذه المواقف مع خطة السلام التي اقترحها الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وقالت مصادر مطلعة على المحادثات لوكالة "بلومبيرغ" إن الوفد الروسي طالب أوكرانيا بتسليم روسيا كامل مناطق لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون، إضافة إلى شبه جزيرة القرم. وطالبت أيضاً المجتمع الدولي بالاعتراف بالمناطق الأربع وشبه الجزيرة كأراضٍ روسية قبل أن توافق روسيا الاتحادية على وقف إطلاق النار. ومن بين المطالب الروسية أيضاً أن تتبنى أوكرانيا وضع الحياد، وألا تسمح للقوات الأجنبية بدخول أراضيها، وأن تتخلى عن تعويضات الحرب.
ويعتقد محللون في "معهد دراسات الحرب" أن "هدف روسيا من الحرب كان ولا يزال الاستسلام الكامل لأوكرانيا، كي تعيد روسيا النظر في مطالبها الإقليمية، التي عادةً ما تكون موضوع مفاوضات لإنهاء الحرب. وكشروط أساسية لوقف إطلاق النار، يحاول الاتحاد الروسي أن يصور نفسه منفتحاً على المفاوضات، لكنه يطرح مطالب لا يمكن لأوكرانيا قبولها بصورة معقولة من دون تقديم تنازلات من جانبها".
وكما ورد في تقرير المركز التحليلي الأميركي "معهد دراسة الحرب"، فإن بوتين سيستمر في رفض تقديم أي تنازلات حتى تتمكن أوكرانيا والغرب من تغيير نظريته حول النصر، والتي تفترض فوز روسيا في حرب استنزاف من خلال التقدم الزاحف الذي لا نهاية له. ومن المفترض أن يمنع ذلك أوكرانيا من تنفيذ عمليات هجومية مضادة ناجحة وذات أهمية عملياتية. وكما ذكرت وكالة الأنباء الأوكرانية الرسمية في وقت سابق، فإن كييف مستعدة لاحتمال فشل مقترحات ترمب لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وعلى رغم ذلك، ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، على خط مواز، أن الدبلوماسيين الأوروبيين يخشون من أن يتخلى الرئيس الأميركي عن أوكرانيا ويركز على إقامة شراكة اقتصادية مع روسيا.
وبحسب الصحيفة، فإن القادة الأوروبيين الذين كانوا يأملون في فرض واشنطن عقوبات جديدة على موسكو، شعروا بالإحباط وحتى الغضب بعد سماعهم وصف ترمب مكالمته الهاتفية مع الرئيس الروسي يوم الـ19 من مايو.
وبحسب "الغارديان" فإن النبرة الاحترافية في الحوار بين الزعيمين الأميركي والروسي، وعدم رغبة الإدارة الأميركية في تشديد القيود على روسيا أثناء العملية التفاوضية، "تقربان من تحقق كابوس أوروبا" المتمثل في خروج الولايات المتحدة من النزاع الأوكراني.
وفي الـ19 من مايو أجرى بوتين وترمب مكالمة هاتفية استمرت أكثر من ساعتين، ناقشا خلالها في المقام الأول سبل إنهاء النزاع في أوكرانيا، وأعرب الرئيس الروسي عن تقديره العالي للمحادثة مع ترمب ووصفها بالبناءة، لكنه لم يقدم أي تنازل لنظيره الأميركي، ولم يوافقه على ضرورة وقف إطلاق النار على الجبهة الأوكرانية.
تحدث بوتين وترمب عبر الهاتف أكثر من ساعتين، وكانت النتيجة الرئيسة للمحادثة استعداد روسيا لإعداد مذكرة سلام وتقديمها إلى أوكرانيا للنظر فيها. وبمجرد أن هدأت ردود الفعل العاطفية الأولى تجاه مبادرة الكرملين في وسائل الإعلام العالمية وبين المحللين، فقد حان الوقت للتفكير في السؤال: أي نسخة من المذكرة ستكون انتصاراً أم هزيمة لكل من أطراف المفاوضات؟ ماذا تريد الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا؟ وماذا يمكن أن يحصل عليه فولوديمير زيلينسكي؟
هذه الكلمة الغامضة هي "مذكرة"
عندما خرج "القيصر" فلاديمير إلى الصحافة مباشرة بعد مكالمته الهاتفية مع الملياردير الأميركي، كان الجزء الرئيس من بيانه القصير في شأن تسوية الأزمة الأوكرانية على النحو التالي: ستقترح روسيا، وهي مستعدة للعمل مع الجانب الأوكراني، في شأن مذكرة حول معاهدة سلام مستقبلية محتملة تحدد عدداً من المواقف، مثل مبادئ التسوية، وتوقيت اتفاق السلام المحتمل، وما إلى ذلك، بما في ذلك وقف إطلاق النار المحتمل لفترة زمنية معينة إذا توصل إلى اتفاقات مناسبة.
وفي وقت لاحق، أكد السكرتير الصحافي لرئيس الدولة الروسية دميتري بيسكوف أن هناك عملاً شاقاً ينتظرنا لإيجاد أرضية مشتركة بين أطراف النزاع في محاولة لتحقيق السلام. وأضاف أنه لا توجد مواعيد نهائية محددة [لإبرام مذكرة السلام]، ولا يمكن أن تكون هناك أي مواعيد نهائية. ومن الواضح أن الجميع يريدون القيام بذلك في أسرع وقت ممكن، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل. وستتم صياغة المشاريع من قبل الجانبين الروسي والأوكراني، وسيتم تبادل مسودات هذه الوثائق.
وهذا يعني في مفهوم اللغة الروسية أنه لن تكون هناك تحركات مفاجئة نحو تغيير مسار العملية العسكرية الخاصة، ولا سيما عدم إنهاء العمليات العسكرية والقتال، إذ يتم تفسير مفهوم "المذكرة" على أنه وثيقة دبلوماسية تقدم إلى ممثل دولة أخرى توضح وجهة نظر الحكومة في شأن قضية ما.
وسيتم في المستقبل القريب إعداد بيان مكتوب يتضمن وجهة نظر روسيا في شأن التسوية. لا مزيد من التوضيح.
حماية الناطقين بالروسية
وفي موقف لافت يدل على عناد موسكو وإصرارها على استمرار الحرب ما لم تقبل كييف بمطالبها، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن بلاده لن تترك ملايين الناطقين بالروسية تحت رحمة نظام كييف الذي يحظر عليهم حتى التحدث بلغتهم الأم، واعتبر أن تركهم لمصيرهم جريمة بحد ذاته. وقال الوزير الروسي يوم الـ22 من مايو "لا يمكن لموسكو أن تترك الناطقين بالروسية في أوكرانيا تحت سلطة النظام الحالي في كييف، ستكون ذلك جريمة كبرى"، وأضاف "يعيش ملايين الأشخاص خارج الحدود الدستورية لروسيا الاتحادية في أوكرانيا ويتحدثون اللغة الروسية كلغة أم. تركهم تحت سيطرة مجموعة حظرت حتى التحدث بالروسية، والتي لم تمنعهم من التفكير بعد، سيكون جريمة عظيمة". وأعرب عن اعتقاده أن المجتمع الدولي لن يتجاهل هذه المشكلة "لا يمكننا ترك الناس تحت حكم النظام الحالي هناك. إذا كان ما يسمى حكومة الزمرة، بصورة أساسية زيلينسكي، يعتقدون أنه يمكن التوصل إلى اتفاق لوقف الأعمال القتالية وأن ما تبقى من أوكرانيا سيعيش وفق القوانين التي وضعوها، فهذا وهم. لا يمكن السماح بذلك تحت أي ظرف من الظروف".
اتهام الغرب بمحاباة النازية
من وجهة النظر الروسية، تحول يوم الثامن من مايو، حيث أحيت أوروبا ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، من يوم لإحياء ذكرى الضحايا إلى احتفال بـ"الأوكرانيين النازيين"، إذ تضمنت عديداً من الفعاليات التذكارية "إشادة بمقاومة أوكرانيا للغزو الروسي". وانطلق الدعاة الروس في استطرادات تاريخية مطولة، محاولين تصوير كل الدول الأوروبية تقريباً على أنها حليفة لنازية أدولف هتلر، وقالوا مرة أخرى، إنه في الوقت الحاضر، ومن خلال دعم أوكرانيا، يحاول الأوروبيون "الانتقام" لهزيمتهم في الحرب العالمية الثانية. وهذا يعني أن روسيا وحدها هي التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، ولم تشاركها بقية دول أوروبا في هذا النصر. وهكذا فإن الروس أنفسهم منتظمون في إعادة كتابة التاريخ، مما يلومون الآخرين عليه بنشاط.
وليس من المستغرب أن الدعاة الروس المحبين للتاريخ لم يذكروا معاهدة "مولوتوف - ريبنتروب"، التي كانت بمثابة بداية الحرب العالمية الثانية فعلياً. وهناك فارق بسيط آخر مثير للاهتمام، الآن، في رأي الروس، مفهوم "النازية" يتوافق في الواقع مع "العداء تجاه روسيا"، أو "رهاب روسيا".
وهذا يعني أن كل من يوجه اتهامات لروسيا هو نازي. إن الانتصار على ألمانيا النازية قبل 80 عاماً، في رأي موسكو، أعطاها حرية مطلقة إلى الأبد، ويمكنها أن تفعل ما تريد. إذا تحدث أحد ضد انتهاكات الكرملين للقانون الدولي، فهذا مظهر من مظاهر "رهاب روسيا" والنازية.
في سياق احتفالات النصر في التاسع من مايو، عرض التلفزيون الروسي قصصاً عن كيفية قيام الشرطة في عواصم أوروبية، وبخاصة في كييف وريغا وفيلنيوس وتالين، باعتقال طاعنين في السن أرادوا فقط وضع الزهور على أنصاب النصر. وتضمنت مرثيات قنوات التلفزة الروسية روايات حظر دول البلطيق للرموز السوفياتية، ووضع الزهور في التاسع من مايو، وما إلى ذلك.
وأكد عضو البرلمان الأوروبي السابق عن لاتفيا أندريه ماميكين أن دول البلطيق الثلاث حظرت الرموز السوفياتية والاحتفال بيوم النصر في التاسع من مايو لأنهم يبشرون بالنازية، في وقت تعلن هذه الدول أن حظر الرموز السوفياتية جاء بسبب تمجيدها السلطات الشمولية.
وفي الوقت نفسه تحدث ماميكين عن معرض "مسار الحرية" الذي افتتح في متحف "أوغري"، والذي كان مخصصاً للحرب في أوكرانيا، وهو الآن مغلق، وذكر ماميكين أن العاملين في المتحف سخروا من الزي العسكري الملطخ بالدماء لجندي روسي ميت كان معروضاً هناك.
وتسيطر الآن على الرسائل الروسية الرواية التي مفادها بأن المعركة ضد النازية لم تنتهِ بعد، وأن روسيا نهضت مرة أخرى لمحاربتها، وأنها ستقوم بتطهير أوروبا من العدوى النازية بالقوة. وفي خطابه يوم التاسع من مايو في الساحة الحمراء، اعتبر بوتين أن العرض العسكري هو إظهار لاستعداد روسيا للدفاع عن مصالحها الوطنية، وقال "الحق والعدل في صفنا. كل البلاد والمجتمع والشعب يدعمون المشاركين في العملية العسكرية الخاصة. نحن فخورون بشجاعتهم وعزيمتهم، تلك الروح القوية التي لم تجلب لنا سوى النصر دائماً". وكتبت "بي بي سي" عن العرض العسكري الذي أقيم في التاسع من مايو "تصور السلطات الروسية الحرب في أوكرانيا على أنها استمرار للحرب العالمية الثانية. وتخلق الرواية الرسمية واقعاً موازياً، حيث تحارب روسيا النازية والفاشية مجدداً في أوكرانيا وفي كل أنحاء أوروبا، وتصور روسيا، الدولة التي غزت أوكرانيا، نفسها كضحية لعدوان خارجي".
كما يشير أندريه كوليسنيكوف كاتب عمود في صحيفة "نوفايا غازيتا" الروسية، "تاريخياً واجتماعياً، كان النصر في الحرب الوطنية العظمى حجر الزاوية في اللاوعي الجماعي لروسيا، إذ لم يكن للشعب أي رابط آخر سوى هذا الحدث. كثيراً ما كان الأمر كذلك، من عهد بريجنيف (ليونيد بريجنيف كان رئيس الاتحاد السوفياتي بين عامي 1964 و1982)، إلى يومنا هذا. لكن ما يحدث الآن أمر استثنائي. الآن تصور الحرب الوطنية العظمى على أنها مجرد خطوة أولى في حربنا المستمرة مع الغرب، في حربنا ضد الفاشية الأوروبية، أما العملية العسكرية الخاصة، باعتبارها استمراراً للحرب الوطنية العظمى، فهي أمر جديد".
في الوقت نفسه يعتقد المركز التحليلي الأميركي "معهد دراسة الحرب" أن العرض لم يكن إظهاراً للنجاحات الدبلوماسية، بل محاولة لإخفاء العزلة الدولية لروسيا وإخفاقاتها العسكرية ومشكلاتها السياسية الداخلية. وأقنع الكرملين، فحسب، حلفاء روسيا المعروفين بحضور العرض، في حين امتنع معظم زعماء العالم عن السفر إلى موسكو. ويشير "معهد دراسة الحرب" إلى أن تركيز الكرملين على مشاركة الرئيس الصيني شي جينبينغ يظهر أن روسيا لا تزال تعتمد على العلاقات مع الصين وأن بوتين يحتاج إلى قوى عظمى لتعزيز صدقيته ودعم جهوده العسكرية.
ووفقاً لتقرير "معهد دراسات الحرب" فإن "الكرملين يروج لرواية عن روسيا قوية ورئيس روسي قوي، لإخفاء نقاط الضعف وحدودها الحقيقية، ولصرف الانتباه عن إخفاقات الجيش الروسي في ساحة المعركة. فكثيراً ما اعتقد بوتين أن الشعور بالضعف قد يكون قاتلاً في نظام قائم على فرضية القوة، وهو مبدأ ينطبق على استقرار نظامه، وكذلك على مكانة روسيا في العالم"، ويخلص المحللون إلى أن الضجة التي أحدثها الكرملين حول احتفالات "يوم النصر" هي جزء من جهد مستمر لإخفاء وتشتيت الانتباه عن نقاط ضعف بوتين وروسيا. منذ هجومها الكامل على أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، دأب الكرملين على تصوير بوتين على أنه زعيم حرب فعال ومهتم من أجل التغطية على إخفاقات روسيا ونجاحات أوكرانيا مع المبالغة في نجاحات روسيا.
عروض استسلام وليست مفاوضات سلام
لم ولن يدعم الكرملين مقترحات الهدنة ووقف إطلاق النار خلال المفاوضات، مع أن بوتين دعا أوكرانيا لمحادثات سلام من دون أي شروط مسبقة، لكنه أكد أنه من المهم "القضاء على أسباب الصراع". وهذا يعني أن السلام، من وجهة نظر الكرملين، لن يكون ممكناً إلا إذا تم استبدال "النظام النازي" في أوكرانيا، وهو ما يعني في الواقع تعيين موسكو لرئيس وحكومة، وعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، والاعتراف بالأراضي المحتلة من قبل روسيا كجزء من روسيا. إن هذا المطلب "بالقضاء على أسباب الصراع" هو الذي يدفع عديداً من المحللين السياسيين إلى الاعتقاد أن بوتين لا يطالب بمفاوضات السلام، بل بالاستسلام الفعلي لأوكرانيا.
تعتقد موسكو أنها لن تستفيد كثيراً من وقف إطلاق نار غير مشروط لمدة 30 يوماً، لا سيما أن الروس يعتقدون الآن أنهم يمسكون بزمام المبادرة في ساحة المعركة في أوكرانيا، لكن روسيا لا تريد أن ينظر إلى هذا على أنه عقبة أمام السلام. فهي ترغب في الحفاظ على علاقات جيدة مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي عمل الكرملين جاهداً معه لتحسين العلاقات. إذا استمر التقارب الأميركي - الروسي، يأمل الكرملين في رفع سريع للعقوبات وتعزيز الاقتصاد. وباقتراحه محادثات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول، أراد الرئيس بوتين إرسال إشارة إلى البيت الأبيض مفادها "أنا رجل سلام"، لكن من المرجح أنه من دون وقف إطلاق نار فوري لمدة 30 يوماً، ستواصل روسيا الحرب وتسعى إلى الاستيلاء على مزيد من الأراضي في أوكرانيا واحتلالها. وفي الوقت نفسه ربما يكون الكرملين قد حسب أن اقتراحه بإجراء محادثات مباشرة في إسطنبول من شأنه أن يؤدي إلى إحداث شرخ بين الإدارة الأميركية والقادة الأوروبيين، وهو أمر قابل للتحقيق ويكاد يحدث.
في الوقت نفسه أعربت تاتيانا ستانوفايا، وهي زميلة بارزة في مؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي، عن ثقتها في أن هدف بوتين لا يزال تحويل أوكرانيا إلى دولة "صديقة"، وطالما بقي في السلطة، فسيستمر في القتال أو محاولة إجبارها على الاستسلام بطريقة أخرى.
وتتحدث ستانوفايا بتشاؤم شديد في شأن احتمالات إجراء مفاوضات السلام. وتقول "الحقيقة هي أن موسكو وكييف غير مستعدتين للموافقة على سلام دائم، لأن مواقفهما متعارضة جوهرياً. وللتوصل إلى اتفاق عملي، لا بد من تغييرات سياسية داخلية (في روسيا أو أوكرانيا) أو تحقيق اختراق عسكري، وهو أمر غير سهل بالنسبة إلى موسكو في الأقل في الوقت الراهن، ويكاد يكون مستحيلاً بالنسبة إلى أوكرانيا. إن التوصل إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد أمر غير قابل للتحقيق موضوعياً في الوقت الحالي، والمبادرة الأميركية للتوسط في اتفاق محكوم عليها بالفشل، في الأقل في هذه المرحلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زيلينسكي يحاول عدم إثارة غضب ترمب
رد فعل نظام كييف وحلفائه الأوروبيين على "المذكرة" الروسية المنتظرة، كما على المحادثة الهاتفية بين ترمب وبوتين ونتائجها كان، من ناحية، عاماً، ولكن من ناحية أخرى، كانت هناك فروق دقيقة. فقد حاول زيلينسكي أن يجمع كل الطرق لحماية نفسه في رد فعل واحد.
وفي البداية، أعلن أن كييف لن توافق على مطالب روسيا بسحب القوات من أراضي أربع مناطق. وأعرب بعد ذلك عن امتنانه الحذر لترمب لجهوده في حفظ السلام واستعداده للمشاركة في مزيد من المفاوضات، ولو بمشاركة الأميركيين والأوروبيين فقط. واختتم زيلينسكي رسالته بالأغنية القديمة التي تقول إنه يجب فرض مزيد من العقوبات على بوتين، ولكن بطريقة جديدة: إذ أضاف طلبات مهينة للولايات المتحدة بعدم الانسحاب من عملية التفاوض. ونتيجة لذلك، فإن رد فعل زيلينسكي يعطي الانطباع بأن رئيسي روسيا وأميركا لم يقتصرا على "الاتفاق على نية التفاوض"، بل قدما له، تقريباً، نموذجاً جاهزاً لاستسلام أوكرانيا للتوقيع.
تصعيد يسابق عاصفة الحلول
أقطن في العاصمة الروسية منذ وقت طويل قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، لكن الهجمات الأوكرانية بالمسيرات المفخخة بالمتفجرات في النصف الثاني من مايو على موسكو، لم يكن لها مثيل لا من حيث العدد ولا من حيث الحجم طوال سنوات الحرب التي تجاوز عمرها الأعوام الثلاثة، وكذلك الرد الروسي الصاعق على العاصمة الأوكرانية والمدن الأخرى بالصواريخ والدرونات، لكن هذا التصعيد المتبادل لا يعني أبداً في العلم العسكري أن الحرب انفلتت من عقالها، بل على العكس من ذلك، يشير إلى اقتراب البحث في الحلول، لذلك يحاول كل طرف إرهاب الآخر بالنار قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
لذلك قدم محللو "جي بي مورغان تشيس" أربعة سيناريوهات لحل الأزمة الأوكرانية: أولها السيناريو "الجورجي"، والثاني "الإسرائيلي"، والثالث "الكوري الجنوبي"، والأخير هو "البيلاروسي". وقال خبراء بنك الاستثمار "جي بي مورغان تشيس" إنه من الممكن التوصل إلى اتفاق لحل الأزمة الأوكرانية في وقت لاحق من هذا العام. ويعتقدون في استنتاجهم أن الصراع في مراحله النهائية وأن رئيس أوكرانيا سيضطر إلى الموافقة على تسوية تفاوضية هذا العام، تحت ضغط موسكو وواشنطن، وليس فقط تحت ضغط انهيار الجبهة الأوكرانية في الميدان، أمام هجوم روسي شامل خلال الصيف. وفي الوقت نفسه فإن قوة الاتفاقات المتوقعة، وفقاً للخبراء، ستعتمد على مدى رضا روسيا عن التنازلات التي تقدمها كييف والدول الغربية، وكذلك على كفاية الضمانات الأمنية المقدمة لكييف.
وفي المستقبل، بحسب التقرير، هناك أربعة سيناريوهات محتملة. ويرى الخبراء أن الخيار "الجورجي" هو الأكثر احتمالاً (50 في المئة). وبحسبها، لن يتم تقديم ضمانات أمنية لكييف، وسيكون الوضع في البلاد غير مستقر، بسبب غياب قوات حلف شمال الأطلسي وخشيتها من التورط في قتال مباشر مع روسيا، مما سيؤدي إلى تراجع مستوى الدعم الغربي، وهذا من شأنه أن يسهم في عودة أوكرانيا إلى دائرة نفوذ موسكو.
وهناك احتمال بنسبة 20 في المئة أن يتطور الوضع حسب السيناريو "الإسرائيلي"، إذ يقدم الغرب المساعدات العسكرية والاقتصادية، لكنه لن يدخل قواته خوفاً من الاصطدام بالجيش الروسي. وفي ظل هذه الظروف، سيكون نظام كييف قادراً على تعزيز قدراته الدفاعية بمرور الوقت.
الخيار "الأفضل"، والذي تبلغ احتمالاته 15 في المئة فحسب، بحسب المحللين، هو السيناريو "الكوري الجنوبي". ويشير إلى أن أوكرانيا ستنضم إلى حلف شمال الأطلسي، لكنها لن تكون قادرة على الاعتماد على استعادة الأراضي. ولكن إذا تم نشر القوات الغربية، فإن أوكرانيا ستكون "على مسار أكثر استقراراً وازدهاراً وديمقراطية".
ووصف محللو البنك السيناريو "البيلاروسي" بأنه السيناريو "الأسوأ"، وهو احتمال وارد بنسبة 15 في المئة أيضاً. وبحسب التقرير فإن الولايات المتحدة سترفض دعم أوكرانيا، بالتالي لن يكون الاتحاد الأوروبي قادراً على التدخل في الوضع، ويشير التقرير إلى أن روسيا قد تحول أوكرانيا إلى "دولة تابعة لموسكو" باسم الصداقة.
لكن المتخصص العسكري فاسيلي دانديكين أبدى شكوكه في أن الخيار "الجورجي" هو الأكثر ترجيحاً، نظراً إلى أن الأحداث في جورجيا نفسها تتطور بعيداً من واقع كييف. وبحسب قوله، فإن كييف قد تخسر جزءاً من الأراضي الخاضعة لسيطرتها، حيث ستقوم روسيا بإنشاء منطقة عازلة كبيرة. وأعرب عن اعتقاده أن هناك خياراً آخر لم يتمكن محللو البنك من تقديره، وهو إنشاء منطقة عازلة. وفي المستقبل القريب، قد يزداد عدد المناطق التي ستضم إلى هذه المنطقة العازلة، بخاصة تلك التي تجري القوات الروسية فيها حالياً عمليات عسكرية، أي في منطقتي سومي وخاركوف، وقد دخلت منطقة دنيبروبيتروفسك، وسيعتمد كل شيء على نجاحها في تحرير هذه المناطق. كما لم يستبعد أن تضم منطقة تشيرنيهيف أيضاً إلى المنطقة العازلة إذا ما حاولت كييف التلاعب بالحدود مع منطقة بريانسك، بحسب ما قال دانديكين.
ويبدو أن جنرالات الحرب الذين يعانون أكثر من غيرهم من أهوالها يتحولون إلى سياسيين عقلاء، فبعد تأخير دام 10 سنوات، فهم قائد القوات الأوكرانية السابق، الجنرال فاليري زالوجني أخيراً كلام فلاديمير بوتين بأن مسألة ضم شبه جزيرة القرم قد أغلقت تاريخياً. ومع أن السياسيين الآخرين في كييف، الذين هم على استعداد للقتال حتى آخر أوكراني، لم يمنحوا بعد الفرصة لفهم وقبول ما هو واضح، إلا أن التصريحات التي أدلى بها زالوجني، بأنه لا ينبغي لأوكرانيا أن تنتظر حدوث معجزة والعودة إلى حدود عام 1991 أو 2022 كفيلة بأن تمنحهم هذه الفرصة. وأكد زالوجني أن هذا الأمر مستحيل ما دام روسيا تملك الموارد الكافية، وأضاف أن أوكرانيا تعيش حالياً "وضعاً اقتصادياً كارثياً"، وأن كييف تعاني أيضاً نقصاً في الموارد البشرية اللازمة لإجراء العمليات العسكرية.
وكانت كييف تعلن سابقاً على الدوام أن النزاع سيستمر حتى تستعيد أوكرانيا حدودها التي رسمتها عام 1991، ولكنها أصبحت أثراً بعد عين في الوقت الراهن، لذلك فإن الأمل بالتوصل إلى حلول سياسية مقبولة، ولو على مضض للأزمة الأوكرانية، يزداد وينتعش كلما جنح الجنرالات نحو السلام، حنى لو كان السياسيون يرغبون في مزيد من الحروب وسفك الدماء.