ملخص
في روايته الجديدة الصادرة عن دار "هاشيت أنطوان" يغالب الروائي سعيد خطيبي مجرى النهر تماماً كما تفعل شخصياته، فهو لا يعيد إنتاج الصورة النمطية للبطولة في الثورة الجزائرية، بل يسائل التاريخ للتحقق من وقائع تعد محسومة سلفاً.
يتأمل سعيد الخطيبي حصيلة الثورة وما ترتب عنها من تكريمات وإدانات لأشخاص كانوا ضحايا مواقفهم. يفتح الملفات القديمة ويضيف كلمته فيها، بلغة متزنة، بعيدة من الاستفزاز والتهويل، وبأدوات روائية معاصرة، مما يشجع على الاهتمام بقضية تاريخية منسية تتعلق بالعمالة، قدمت هذه المرة من زاوية مغايرة.
طبيبة تسرق العيون من الجثث
تبدو رواية "أغالب مجرى النهر" أقرب إلى الرواية البوليسية في صفحاتها الأولى، بأجوائها المتوترة وما يرافق عالم الجريمة من سجن وتحقيقات وانفعالات. فالأحداث تنطلق في بداية التسعينيات، من داخل زنزانة، تحتجز فيها سيدة تصف اضطرابها والمكان حولها وصحن الرز المعدني الذي تتحرك فيه نملتان. شيئاً فشيئاً تتكشف ملامح الشخصية فنتعرف على هويتها، عقيلة التومي، طبيبة عيون في بوسعادة، متهمة بقتل زوجها مخلوف، الطبيب الشرعي الذي كانت تتعاون معه على سرقة القرنيات من الموتى، وإعادة بيعها وزرعها في عيون مرضى مهددين بالعمى. تبرر عقيلة هذه التجارة بالأعضاء والتعدي على حرمات الموتى على أنها عمل خيري نابع من طيبتها وواجبها المهني في استعادة البصر لمرضاها.
بهذا المنحى البوليسي إذاً، يشحن سعيد خطيبي نصه بجرعات مكثفة من التشويق، كما يمنح شخصيته الرئيسة "عقيلة" لغة حادة مشبعة بالنقمة على مجتمعها الذكوري، بحيث يتجلى عنف اللغة في تشبيهاتها الصادمة وتوصيفها لعملية انتزاع القرنيات، تقول "قلبت جثثاً بين يدي كما تفعل ابنتي بدميتها" وتضيف في موضع آخر "استأصلت قرنيتي الميت، اليمنى فاليسرى مثل ميكانيكي يقتلع قطعتي غيار من مركبة معطوبة". بعد نهاية التحقيق الأولي مع عقيلة، يعود السرد بالزمن إلى الوراء، ليكشف ماضي المتهمة وعلاقاتها المعقدة بالمحيطين بها.
الأب والابنة
تتعدد الأصوات في رواية "أغالب مجرى النهر"، عبر ضمير المتكلم بين صوت الابنة وصوت الأب، ويتدخل الراوي العليم في بعض الأحيان مؤدياً وظيفة الراوي المسرحي. أما ميلود الابن فيبدو أقل الأصوات الساردة حضوراً، إذ اقتصر على تفسير مواقف سبق طرحها. في حين غابت أصوات بقية الشخصيات تماماً، كالزوج المقتول، والأم قمرة، وحضرت الطفلة مينة برسوم عفوية أرفقها سعيد خطيبي في الكتاب. من هنا، نميز أهم شخصيتين بارزتين في العمل الروائي، تمثلتا في الابنة والأب وقد جاء سردهما متعاقباً، بحيث افتتحت الابنة السرد وروت حكايتها الكاملة، وبعد ذلك منح الصوت للأب ليتابع القسم الثاني.
في النصف الأول من الرواية، تروي عقيلة علاقتها المشوهة بوالدتها التي عاملتها بقسوة وجفاء، فلم تغفر لها الابنة ما سببته لها من عقد نفسية، وتأثيرها السلبي في تكوينها بعد البلوغ، مما جعلها ضعيفة اجتماعياً، مهزوزة وخاضعة لزوجها، إضافة إلى فتور علاقتها بابنتها، حتى صارت لا تعرف كيف تكون أماً جيدة. في المقابل تعبر عقيلة عن تعلقها بوالدها واعتزازها بمسيرته كرجل حرب شجاع، وتكشف تعاسة حياتها الزوجية، إلى جانب زوج يسيء معاملتها ويعنفها طوال الوقت. تصف عقيلة زوجها بأحقر الصفات وتتحدث عنه باشمئزاز، مما يولد انطباعاً سلبياً حياله في ذهن المتلقي. أما في النصف الثاني، فيروي الأب حكايته هو الآخر، بدءاً من طفولته في زمن الاستعمار الفرنسي، ثم مشاركته في الحرب العالمية الثانية، فإلى زواجه التقليدي من قمرة، ليكشف بعد ذلك، عن أهم سر أخفاه عن عائلته لسنوات، يتعلق بشطبه من قائمة المناضلين عندما اتهم بالعمالة ظلماً، وتعرض للتعذيب على يد رفاقه، تاركين أثر حرق على ظهره، يمثل وصمة العار التي يخشى أن تنكشف في أية لحظة.
قبل العشرية السوداء بقليل
اختار سعيد خطيبي مدينته بوسعادة لتكون مسرحاً لأحداث روايته، وهي مدينة تربط الشمال بالجنوب وتعد بوابة للصحراء في الجزائر. تمكن الكاتب من نقل صورة عن تراثها وعادات سكانها، من خلال إشارات متعددة إلى طبق "الزفيطي" الحار الذي تشتهر به المدينة، ووصفه للفستان النايلي وسخاب العنبر المعطر، والرقصة المحلية على إيقاع موسيقى الغايطة. أضاء على عادات قديمة كان يمارسها السكان مثل وشم الخطين المتوازيين على الذقن وما يرمزان إليه من حزن وفرح، وعادة نثر البخور على رأس المولود الجديد، وإحاطة مهده بالملح حماية له من الحسد، ثم جرح إصبعه حتى ينزف ويبكي، إيماناً بمقولة "يسيل الدم، يسيل الهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في ما يخص زمن المدينة، فقد اختار سعيد خطيبي بداية التسعينيات كزمن حاضر، ويحدث أن يتراجع الزمن عقوداً إلى الوراء، عندما يسترجع الأب ذكريات شبابه في الخدمة العسكرية وثورة التحرير. رصد خطيبي ملامح التسعينيات من الفصول الأولى، عبر إضاءات متعددة على ظروف تلك المرحلة، مثل التواصل من خلال الهاتف الثابت، وكابينات الهواتف المنتشرة في الشوارع وما إلى ذلك. وعلاوة على وضع القارئ في الإطار الزمني المناسب، ركز خطيبي على المناخ السياسي والاجتماعي السائد في فترة حساسة سبقت العشرية السوداء بأشهر، فالرواية تشرح الزمن المتوتر قبل حلول العاصفة، وما كان يعتري المجتمع من تحولات، مثل حادثة اقتحام ملثمين للمتحف وتخريبهم لوحات فنية تصور نساء عاريات، وحادثة التهجم على بيت بغاء والاعتداء على مومسات، احتجاجاً منهم على ما يقترفنه من خطايا. في خضم كل ذلك، تنتهي الرواية في اليوم التاسع من يونيو (حزيران) عام 1990، قبل أيام قليلة فقط من انتخابات البلدية الشهيرة في اليوم الـ12 من الشهر ذاته، وهو حدث سياسي استثنائي، مثل أول تجربة تعددية للأحزاب في تاريخ الجزائر، انتخابات فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامي بـ853 مقعداً من أصل 1541 وبـ31 مجلساً من أصل 48.
بين البطولة والخيانة
في رواية "أغالب مجرى النهر"، يسائل سعيد خطيبي التاريخ عن معنى البطولة والخيانة، وعن الظلم والعدالة في حق أشخاص نصبوا أنفسهم أبطالاً من دون أن يطلقوا رصاصة واحدة، وآخرين وسموا بـ"الحركي" رغم ما قدموه للثورة. ويطرح أسئلة حول السمعة المرموقة لمناضلين لا يعرف العامة ما اقترفوه من أذى وجرائم في حق كل من خالفهم الرأي، فقط لأنهم انسحبوا أو رفضوا تنفيذ مهام أوكلت إليهم. مثل عزوز خالدي الذي رفض تفجير مقهى شقيقه وكان الامتناع ذنبه الوحيد، ليلاحق بتهمة "الحركي" لما تبقى من حياته. ولكن في عامه الـ75، وبعد 30 عاماً من الاستقلال، يرتب عزوز رحلة إلى العاصمة، كي يوصل صوته ويرد اعتباره قبل أن يموت بحسرته وينتهي ذليلاً ومنبوذاً، كما انتهى كثر من رفاقه المظلومين.
يتساءل عزوز عن جدوى مغالبة مجرى النهر، فيقول "هل كانت حياتي ستسير على ألطف حال لو أنني امتثلت لأمرهم ولم أغالب مجرى النهر؟" وتفعل ابنته الأمر نفسه، حين تمتثل لزوجها وتضع خبرتها في عمليات القرنيات كي تعيد البصر لمرضاها، فتقول:"لو أنني غالبت طيبتي وغالبت مجرى رغباته" .
يغالب الروائي سعيد خطيبي نفسه، مجرى النهر، حين يخوض مغامرة نشر هذا العمل، وهو يحفر بجرأة في التاريخ، في دعوة صريحة للقراء إلى الالتفات إلى الماضي وتأمل ما يعد معروفاً أو محسوماً.