ملخص
أطوار اليمين المتطرف الأميركي وحروبه الدخلية تسلط الضوء على صعود ترمب وخلافه مع ماسك
حمل يقين راسخ بأن الليبرالية السياسية العميقة الجذور في الولايات المتحدة الأميركية، المؤرخين الأميركيين على التهوين من تأثير اليمين المتطرف في التيار المحافظ من الحياة السياسية. وعلى هذا، بدا ترمب استثناءً مفاجئاً ودخيلاً على تاريخ هذا التيار. وفي ضوء تأريخ جديد ومختلف، يبدو ترمب ثمرة مخاض تاريخي طويل مهّد الطريق لظهوره، واستتباب الأمر له. هذه خلاصة تقرير أعده مارك- أوليفييه بهيرير ونشرته "لوموند" الفرنسية قبل أيام في الـ31 من مايو (أيار) 2025.
وأبرز ما ورد فيه ملاحظته أن الولايات المتحدة تبدل وجهها اليوم، وتميل نحو اللاليبرالية، على نحو صارخ. و"لم تروا بعد شيئاً" مما يخبئه المستقبل، على ما وعد دونالد ترمب، في الـ29 من أبريل (نيسان)، وأثناء احتفاله بانقضاء 100 يوم على ولايته الجديدة. وسلط الضوء على أن الثورة المضادة الجارية تدير الظهر لما حسبه الناس، زمناً طويلاً بل منذ البدء، الركن المكين الذي نهضت عليه الحداثة الأميركية. وسبق أن أطاح فوز الملياردير بولاية رئاسية أولى، في 2016، آراء راسخة في أطوار البلد، ودعا المؤرخين إلى مراجعة أحكامهم التي حالت بينهم وبين تشخيص العوامل التي أسهمت في فوز مثل هذا المرشح بالرئاسة.
وكان المؤرخ المستقل والصحافي، ريك بيرليستين، الناطق الأول بلسان هذه المراجعة. فكتب مقالة في "نيويورك تايمز"، أبريل 2017، جاء فيها: "هؤلاء الذين يتولون، بموجب حرفتهم، السهر على ماضي أميركا، ارتكبوا خطأ فادحاً. فسردنا تاريخ اليمين الأميركي في رواية حال اختصارها الشديد من دون توقع بروز سياسي على شاكلة ترمب". فسرى في صفوف أهل الحرفة شعور بالتقصير، وبالحاجة إلى تداركه، والكتب التي تُطبع وتنشر اليوم، وكلها كتبت بعد 2016، تصدر في الوقت المناسب.
ولا يقتصر المؤرخون على تعقب حلقات تاريخ اليمين في القرن الـ20، بل هم يتجاوزون هذه الحلقة إلى التساؤل عن مصير الولايات المتحدة التاريخي كله. وبعض الآراء في ما حسبه البلد، أو ظنه في نفسه وأحواله، اطرح واستبعد، شأن سياسة روزفلت الاجتماعية أو "الصفقة الجديدة"، وحركة الحقوق المدنية، وخطوات الحركة النسوية المتقدمة، والانفتاح على العالم، والدفاع عن الحرية. هذه الفصول تبدو، في ضوء فحصها المتجدد، أكثر هشاشة مما بدت قبله... وتبدد الأعمال الجديدة أسطورة راسخة هي المدماك الأول في الخطأ الذي بني عليه تاريخ اليمين، أي افتراض إجماع ليبرالي، بل افتراض إجماع أميركي.
وبموجب هذه الأسطورة، تبنت كثرة الأميركيين، غداة الحرب العالمية، الليبرالية السياسية، الفلسفة التقدمية التي تتمسك بالحريات الفردية وحقوق المواطنين. وبموجبها كذلك، غلب من غير منازع مبدأ المساواة بين الأعراق، وأقر الأميركيون جميعاً بفضائل تدخل الدولة في الاقتصاد، وتناول النقاش تظهير هذا التدخل وإجراءه من دون فكرته. واضطلعت إدانة الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية) بدور الأسمنت أو اللحمة التي لحمت الولايات المتحدة في كلّ واحد، ما عدا تيارات ثانوية تُحمل أفكارها على أعراض مرضية.
أحوال الليبرالية السياسية في أميركا
ودافعت عن هذا الرأي في اليمين الأميركي وتاريخه أصوات مأذونة ومؤثرة، شأن المؤرخ ريتشارد هوفستادتير (1916 - 1970)، وهو مؤلف كتاب صدر في 1964، ولا يزال مرجعاً في الولايات المتحدة: الأسلوب العظامي. نظريات المؤامرة واليمين الراديكالي في أميركا. وقارئ هذا الكتاب يحسب أن هيمنة الليبرالية السياسية من غير منازع، ووحدهم "أشباه المحافظين" من ذوي النزعات إلى تصديق مزاعم المؤامرة يرفضون الصدوع بهذه الهيمنة والانقياد لها. وفي هذا الوقت، كان استقر الاقتناع بأن الليبرالية السياسية ليست، في الولايات المتحدة، التراث الفكري الغالب فحسب، بل هي التراث الأوحد، على ما كتب الناقد الأدبي ليونيل تريلينغ في مقالة صدرت في 1949، جزم كاتبها فيها بأن "ليس ثمة [في أميركا] أفكار رجعية قيد التداول".
وفي العقود اللاحقة، بقيت فكرة إجماع ليبرالي سارية، على رغم ملاحظات نقدية بدأت تتواتر مذاك. ولم يفلح المؤرخون في التخفف من هذه الأفكار. ومعظم هؤلاء المؤرخين من اليسار، ويميلون إلى الليبرالية ميلاً مضمراً لا تبطله بعض الخلافات، على ما يلاحظ ريك بيرليستين.
وفي 1980، بينما كانت الحركات الاجتماعية - اليسارية، في 1960 و1970، لا تزال حية في الذاكرة، هز انتخاب رونالد ريغان المؤرخين. وكانت شعبيته لغزاً مقلقاً في نظر مؤرخين يساريين غير قليلين عدداً، على ما نبّهت كيم فيليبس- ماين، الأستاذة في جامعة كولومبيا (نيويورك)، والاختصاصية في تأريخ اليمين الأميركي. وشرع الجامعيون في تقويم عمل ريتشارد هوفستادتير تقويماً أشد صرامة من ذي قبل، ومعه "الأسلوب العظامي" الذي وصف به التيار اليميني المتطرف. ورأوا أن "حمله على عرض مرضي" لا يفي بتعليل النجاحات التي يصيبها التيار المحافظ.
فنزعت الدراسات التاريخية والجامعات، جواباً عن المسألة، إلى التعاطف مع اليمين، في أثناء العقد العاشر من القرن الـ20، على ما لاحظت كيم فيليبس- ماين. وتسترت على بعض نزعاته المقلقة، أو أخرجتها في صورة تبعث على الاطمئنان والقبول، بينما كان الحزب الجمهوري، في هذا الوقت، ينزع إلى الغلو في المحافظة. ومثّل على هذه النزعة رئيس مجلس النواب الحاد نيوت غِنْغريتش. وعمد الباحثون والسياسيون معاً إلى التهوين من خطرها في أثناء العقدين، الأول والثاني، من القرن الـ21. فذهب باراك أوباما نفسه، إلى القول، بنبرة عاطفية، "إن ثمة، على الدوام، جمهوريين لا يتخلون عن التمسك بالاعتدال السياسي، وفي الإمكان التفاهم معهم"، على ما يذكّر ريك بيرليستيْن.
ولكن بإزاء بروز شخصية من طراز دونالد ترمب، في 2016، لم يكن ممكناً ولا جائزاً تفادي القلق من وقع التطرف، والتحري عن مصادره. وألحت مسألة تحليل العلاقات التي تربط تيارات اليمين المعتدلة بتياراته المتطرفة، والديناميات داخل كليهما، وذلك بغية فهم السيرورات التي أدت إلى تغلب ما بدا هامشياً - التيار اللاليبرالي - على سواه من التيارات. وجلت مراجعة الماضي، على ضوء هذه المسألة، شخصيات منسية، أسيء تأويل دورها، على شاكلة ميروين ك. هارت، وويليام باكلي، وبات بوكانان، وروس بيروت Ross Perot.
ميروين ك. هارت تجسيد جبهة اليمين
بعد وقت أسدلت الستارة في أثنائه على دور ميروين ك. هارت (1881- 1962)، السياسي النافذ، سلطت الضوء على دوره دراسة ديفيد أوستن والش التاريخية إحياء أميركا مجدداً Taking America back (دا مرييل يونيفيرستي، 2024). وهي من أفضل دراسات المؤرخين المجددين، وصاحبها أستاذ في جامعة فرجينيا. ويقترح كتابه إطاراً نظرياً جديداً. فيذهب إلى أن الحركة المحافظة الأميركية نشأت على الأسس نفسها التي أُرسيت عليها الجبهة الشعبية، اليسارية، في أعوام عقد 1930 في فرنسا: تحالفت تيارات رأي متخاصمة على مجابهة عدو مشترك. وبين الاثنين فرق لا ينبغي التقليل من شأنه: الجبهة التي يتكلم عنها ديفيد أوستن والش لا تناضل ضد الفاشية، بل العكس، فهي جبهة محافظة، وتضوي تحت جناحيها عناصر مفرطة الرجعية، بل أخطر وأسوأ، وتدمج الليبرالية السياسية والشيوعية في صورة خطر واحد ومميت.
والحق أن المحافظة الأميركية في القرن الـ20 تنهض على ركن هو النضال المستميت ضد خطر وجودي هو "التشريك" (كولكتيغيزم)، على قول ديفيد أوستن والش. وباسم هذا النضال، نسج اليمين المعتدل علاقات ملتبسة باليمين الأشد تطرفاً. وبلغ به الأمر مبلغ السعي في استمالة هذا اليمين إلى تأييده ومساندته. ولا يُفهم من هذا أن الخلافات لم تدب في صفوف الحليفين. فجبهة اليمين هذه غير معلنة. وتنتقل من صورة إلى صورة تبعاً للظروف المتغيرة والأوقات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدأ ديفيد أوستن والش دراسته بتناول ميروين ك. هارت الذي يجسد الجبهة الشعبية المحافظة. والرجل محامٍ من أقصى اليمين، ويحظى بتعاطف الأوساط اليمينية المعتدلة التي يخالطها ويتردد إليها. وهو رسّخ مكانته السياسية في أثناء أعوام 1930، بينما كان فرانكلين د. روزفلت يُعمل إجراءات "الصفقة الجديدة"، وينفخ النشاط في اقتصاد الولايات المتحدة بعد إصابته بأزمة 1929. فشيدت إدارة اتحادية عريضة، واستوت الدولة الأميركية على صورتها الحديثة. ومذاك، لم يتخلَّ اليمين الأميركي يوماً عن فكرة تقليص حجم الحكومة، واختزال "قامتها"- وهي الحملة التي يقودها اليوم الملياردير إيلون ماسك.
وقاد ميروين ك. هارت الحملة على "الصفقة الجديدة". وأيد كبار الصناعيين إنشاءه مجلس ولاية نيويورك الاقتصادي، وهو مجموعة ضغط قادت حملة على تدخل الدولة وأشكاله كلها، وروجت لفكرة تولية رجل الأعمال على السلطة، وهي فكرة استعادها ترمب. ولاقى جزء من الصحافة، "شيكاغو تريبيون" و"نيويورك هيرالد تريبيون" أفكار هارت بالترحيب. فنشر من هذا الطريق أفكاره. وصور الصفقة الجديدة في صورة صنيع "حفنة من رجال يرغبون في قيام ثورة تقضي على الحرية". وكان هارت، اللاسامي، أحد أبرز دعاة نظام الديكتاتور الإسباني فرانكو في الولايات المتحدة. ووقف في وجه مناهضة النازيين... ولم يحل هذا دون متابعته عمله السياسي غداة الحرب العالمية الثانية، من غير أن يتخلى عن لا ساميته المتفاقمة الحدة.
وما لبث أن نسج علاقات حميمية بالشيخ (سيناتور) النافذ جوزيف ماكارثي (1908- 1957). فالرجلان تقاسما قناعات معادية للشيوعية، وحادة في عدائها. وقادت هذه القناعات الشيخ المنتخب عن ولاية ويسكونسين، في عشرية 1950، إلى شن حملة مطاردة ساحرات تعقبت جواسيس سوفياتيين مزعومين في صفوف الجهاز الحكومي وخارجه. وخلّف ماكارثي صورة سياسي ديماغوجي خطر. ولكن اليمين كله أجمع على مديحه لما كان في دورة مساره، على ما يذكّر ديفيد أوستن والش.
وخسر ماكارثي حظوته لدى الجمهور في 1954، بعد أن سقطت الدعاوى القضائية التي رفعها كلها ضد متهمين بالشيوعية، ولم تثبت تهمة على واحد منهم. وتسببت دعوى على أحد الشيوخ، ليستر سي. هانت، في انتحار المدعى عليه. وأقر الكونغرس توصية بنزع الثقة عن ماكارثي. وفي العام نفسه، صدر كتاب أخذ جانب الدفاع عن الشيخ المدان: ماكارثي وأعداؤه (دار هنري ريغنري وشركاه). وأحد مؤلفي الكتاب، ويليام باكلي (1925- 2008)، هو يومذاك شاب طموح، وما لبث أن استوى معلم التيار المحافظ الأميركي الأول. وكتب كتابه الأول، "الله والإنسان في (جامعة) ييل" (دار هنري ريغنزي وشركاه، 1951)، مستلهماً مشورة ميروين هارت.
ويليام باكلي والحلولية
وهذه القرابة مع لا سامي معلن مثل ميروين و. هارت، تبعث على الدهشة. فويليام باكلي يتمتع عموماً، في كتب التاريخ بسمعة طيبة. فهو مثقف لامع، أسس في 1955 المجلة النافذة جداً والمحافظة، "ناشينال ريفيو"، واضطلع بدور حاسم في صفوف اليمين الأميركي. وتولى نشر العقيدة السياسية التي انتصرت مع رونالد ريغان، وشكلت جوهر الأيديولوجية المحافظة إلى يوم فوز دونالد ترمب بالرئاسة. وهذه الفلسفة "الحلولية"، تمزج السلفية الدينية بالليبرالية الاقتصادية ومناهضة الشيوعية.
فاشية أميركية؟
جرى المؤرخون، زمناً طويلاً، على نسبة دور آخر إلى ويليام باكلي: فقيل إنه صاحب تمييز المحافظة المحترمة من اليمين المغالي في تطرفه، وقيل إن هذا التمييز نص صاحبه عليه في 1962، وتُرجم باستبعاد روبرت ويلش، مؤسس "جون بيرش سوسايتي"، وهي جمعية أخذت بنظرية المؤامرة، ونشطت في أعوام 1960، ووصفتها صحيفة "لوموند" في 1961، وكانت محقة في وصفها، على قول ديفيد أوستن والش، بـ"الفاشية". وجاهر ويلش بأن الرئيس الجمهوري، دوايت أيزنهاور (1953- 1961)، كان عميلاً لـ"كي جي بي" جهاز الاستخبارات السوفياتي. وتساءل ويليام باكلي، بإزاء الأكاذيب التي كان يشيعها روبرت ويلش، في افتتاحية "ناشينال ريفيو" (عدد 13/2/1962): "هل يجوز الوثوق في رجل لا ينفك يكذب اليوم تلو اليوم؟". واعتبر نقده الحاد هذا في مثابة انعطافٍ في تاريخ اليمين، على اختلاف أجنحته، وحزامٍ صحي [حظر] ضرب حوله، أو معيار أخلاقي لا يجوز انتهاكه.
ويندم ريك بيرليستيْن، اليوم، على نشر هذه الرواية، وإسهامه في إذاعتها. فهو يكتب: "لقد استعدتها في كتابي الذي تناولت فيه باري غولدووتر، المرشح الجمهوري إلى انتخابات الرئاسة في 1964". ومنذ انتخاب دونالد ترمب إلى ولايته الأولى، تغيّرت نظرة المؤرخ إلى الأمر: "ليست الكتب التي صدرت (قبل 2016) سيئة، إلا أن الأسئلة التي يعالجها المؤرخون تتغير بتغيُّر الأحوال، لتجيب عن أسئلة الحاضر".
لا شك في أن الحركة المحافظة شهدت على الدوام ازدواجاً داخلياً. ووجوهها البارزة، شأن ويليام باكلي، لم يغفلوا يوماً عن ضرورة الحفاظ على صورة تبعث على الاحترام، من غير أن يتخلوا عن صلة ثابتة بأشد ناخبيهم تطرفاً. وفي المقالة الافتتاحية التي ندد فيها بروبرت ويلش، تملق ويليام باكلي أعضاء "جون بيرش سوسايتي"، وحيا فيهم "بعض أقوى وأمتن المناهضين للشيوعية على الصعيد الأخلاقي، وأكثرهم استعداداً للتضحية وانخراطاً في الدفاع عن أميركا".
أما المؤرخ المحافظ، عضو فريق البحث "أميركان إنتريبرايز إستيتيوت"، ماثيو كونتينتي، فلا يولي عملية "التطهير" التي نزلت بروبرت ويلش، في كتابه الحق (بايزيك بوكس، 2022)، إلا اهتماماً جزئياً، ومكاناً ضيقاً. فهو يحاول، في تأريخه للحركة المحافظة الأميركية في القرن الـ20، دمج الشعبوية في الرواية التي يسردها اليمين عن نفسه. ويصف ويليام باكلي على صورة رجل كانت حملته على روبرت ويلش "ضعيفة الأثر". وفي هذا المعرض، يقلل كونتينتي، وهو لا يتبنى فكرة الجبهة الرجعية التي صاغها والش، من شأن نفوذ باكلي.
من باري غولدووتر إلى رونالد ريغان
وحذا باري غولدووتر، في 1964، حذو كونتينتي. فقاد المرشح الجمهوري إلى الرئاسة حملة حادة على الحقوق المدنية وسياسات عدم التمييز بين الأعراق، وحرص، في آن معاً، على ألا يثير حفيظة "جون بيرش سوسايتي". وأحد مؤيديه هو الممثل السينمائي المدعو رونالد ريغان. وقرر هذا، في الأثناء، مزاولة العمل السياسي والانتخابي.
وفي 2024، نشر الكاتب المحافظ ومعارض ترمب، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، ماكس بوت، كتابه "ريغان... سيرته وأسطورته" والسيرة هذه تنحو نحو فحص الضمير السياسي. ويلاحظ الكاتب أن ريغان رفض بدوره، في أثناء الحملة الانتخابية التي فاز فيها بحاكمية ولاية كاليفورنيا، القطيعة مع "جون بيرش سوسايتي". "أذاع بياناً سوّغ له قبول مساندة هذه الجمعية، من ناحية، وتمييز نفسه عنها، من ناحية أخرى". وعلى هذا، وسع البيرشيه التمتع بالنفوذ زمناً طويلاً. وداوم مؤسس منظمة "هاريتدج فونديشين"، الجمعية البحثية المحافظة والعاملة منذ 1973، بول وايريش، أحد من أدوا دوراً فاعلاً في فوز ريغان عام 1980، (داوم) على الإسهام في تحرير نشرة الجمعية إلى 1983.
وفي آخر كتبه، الموسوم بـ"ريغان لاند، الانعطاف الأميركي في 1976- 1980" (دار سايمون أند شوشتير، 2020)، تناول ريك بيرليستيْن انعطاف الولايات المتحدة إلى اليمين قبيل فوز ريغان بالرئاسة. وهو يعزو هذا الانعطاف إلى تأثير أوساط رجال الأعمال التي أصلت اليسار حرباً لا هوادة فيها. وتحالفت هذه الأوساط مع اليمين الديني على "شن الحرب المشتركة" على الإجهاض، وعلى "القضية المثلية".
وغالباً ما يوصف رونالد ريغان بآخر رئيس (1981- 1989) غيَّر البلد تغييراً حقيقياً. والكتب التي تناولته بالدراسة كثيرة. وسبق فوزه إعداد استغرق أعوامَ عقد 1970، وأنجز في أثنائها تسييس الإنجيليين، وانحياز جنوب الولايات المتحدة إلى الحزب الجمهوري. وعجلت في الأمرين استراتيجية نيكسون (1969- 1974)، وتعمده تملق جمهور الناخبين العنصريين في الولايات التي رعت الرق قديماً. ووسع ريغان، حال انتخابه، الاعتماد على شبكة جماعات رأي يمينية، نشأت ونشطت قبيل دخوله البيت الأبيض، وبثت أفكارها في أنحاء الولايات. وأمكنته هذه الشبكة من لبرلة الاقتصاد، وتجديد النضال ضد الشيوعية. فهذه الموضوعات سبق أن أُشبعت درساً وبحثاً، ولم يبق منها بمنأى من الدرس إلا زوايا قليلة.
ولا ريب في أن عهد ما بعد ريغان طبعته بطابعها تحولات جذرية طاولت اليمين، إلا أن الذكرى التي خلفها العقد الأخير من الألفية تخالف الانطباع السابق. ففي العقد هذا انهار جدار برلين، وتكاثرت اتفاقات التبادل الحر، وعادت البحبوحة أدراجها. وشهد العقد على "إحراز الليبرالية السياسية والاقتصادية نصراً باهراً" على ما كتب، في 1989، فرانسيس فوكوياما، صاحب نهاية التاريخ والإنسان الأخير.
وتناول بهيرير ظاهرة تشرذم اليمين. فعلى رغم أنه أسهم في إحداث بعض هذه التغييرات وإنضاجها، وهو ما فعله في مسألة التبادل الحر على وجه الخصوص، لم ينجح في صون وحدته وتماسكه منذ نهاية ولاية ريغان الثانية. وتفاقم التصدع في ولاية خلفه، جورج بوش (1989- 1993). وظهرت على السطح نزعات متطرفة جديدة، لم يقدر نفوذها حق قدره إلا في وقت متأخر. وهذا قرينة على أن الأمس القريب لم يدرس الدراسات الوافية التي يستحقها.
"لا يعير المؤرخون الاهتمام الوافي لما يعود إلى أقل من 30 عاماً" لاحظ أوليفييه يورتين، الأستاذ المحاضر في حضارة الولايات المتحدة بجامعة بيكارديا- جول فيرن. والحق أن دراسات استقصائية يتوالى صدورها شيئاً فشيئاً، وتسهم في فهم عصرنا على نحو أفضل من قبل. ولاحظ مؤرخان أميركيان التغير العميق الذي طرأ على قواعد الحياة السياسية في عهد ريغان.
مناهضة التبادل الحر والهجرة والديمقراطية
يذهب جون غانز- مؤلف كتاب استرعى الانتباه، تناول الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالولايات المتحدة في العقد العاشر من القرن العشرين، عندما تحين الساعة (دار فرار، ستروس أند جيروتس، 2024)- إلى أن "سياسة يأس" تبلورت في تلك الأعوام، وفي حلقات فكرية وسياسية أبرزها الحلقة التي توسطها بات بوكانان.
"يتهدد أميركا خطر داهم" كانت العبارة الغالبة عن تلك السياسة، وفي تلك الحلقات. وتتمتها "لا شك في أن العدو الشيوعي هزم، إلا أن تحرر السلوك من المعايير الخلقية والاجتماعية"، و"اجتياح الهجرة" والتجارة العالمية، تهدد كلها التقاليد الأميركية، و"تنذر بالقضاء عليها". وعليه، استدار اليمين الأميركي نحو عدو جديد، داخلي هذه المرة، هو الليبرالية، بحسب تشخيص بوكانان. لذا، ليست الانتصارات الانتخابية المباشرة، على المثال السابق والفائت، التتويج المنتظر والمرجو للنضال ضد الليبرالية. فبعض الهزائم يمهد للفوز المقبل غداً، ولتطوير الأفكار والمقالات وتكييفها مع الواقع.
فاستمالة الرأي العام لم تبقَ أو تَعُد ثمرة قوة الإقناع، على ما كان ريغان يقول إبان رئاسته. والوسيلة إلى الإقناع اليوم هي الغلو والجنوح إلى الإفراط في المبالغة، على ما نبهت نيكول هيمير في كتابها بارتيزنس (بايزيك بوكس، 2022) حيث تناولت الحمى التي تستولي على الصحافيين ومقالاتهم، وعلى السياسيين ومفكري اليمين: "كلهم أسهموا في تغليب نهج سياسي لم يكن محافظاً على النحو المألوف فحسب، بل كان مناهضاً لليبرالية، ويستند إلى فظاظة الثقافة الأميركية (...) وجراء صنيعهم هذا، مزجوا الحركة المحافظة التقليدية باليمين المتطرف والعنيف"، على ما كتبت.
ويعود الكاتبان، جون غانز ونيكول هيمير، إلى تسليط الضوء على بات بوكانان وحياته السياسية. والرجل شخصية إعلامية جاءت من صفوف اليمين التقليدي. وأدرك أن ثمة حيزاً متاحاً على يمين ريغان وجمهور ناخبيه وأنصاره. وبذل جهده في سبيل استمالة جمهور هذا اليمين، في عهد جورج بوش. ولاحظ أن المنافسة الأجنبية تنزل الضعف في الصناعة الأميركية. فما كان منه إلا أن ندد بالتجارة الحرة، وخرج عن الإجماع الغالب على موقف الجمهوريين، وتبنى أسلوباً تبشيرياً ودعوياً في تنديده بالهجرة، على خلاف أسلوب رونالد ريغان: فتمنى بناء جدار عازل على الحدود الأميركية، وجاهر بازدرائه الديمقراطية، ووصفها بنظام لا يلائم الانحطاط السائد لأنه يفاقمه.
وفي ضوء نجاحه الإعلامي الذي استقبل حمله، قرر بوكانان الترشح إلى البيت الأبيض، والاشتراك في الاستفتاءات التمهيدية الجمهورية التي تعد للحملة الرئاسية في 1992. وأحرج رواج حملته في أوساط الناخبين الجمهوريين، الرئيس جورج بوش، الساعي في الفوز بولاية ثانية.
ولكن بوكانان شخصية مثيرة للخلاف، ويدلي بآراء لا سامية. ورغم ذلك، حظي بتأييد ويليام باكلي التكتيكي، أبرز وجوه اليمين الفكرية في ذلك الوقت. وتابع باكلي على تأييد بوكانان روش ليمبوغ، مدير برنامج تلفزيوني متطرف في محافظته، وذائع الصيت مذ ذاك، وما لبث أن عمل في محطة "فوكس نيوز". وأسهم هو كذلك في تغليب الثقافة السياسية الجديدة تلك وفي إرسائها على الاستفزاز والهجاء والتشاؤم.
وإخفاقه في الفوز بالاستفتاءات الأولية والحزبية لم يحل دون إبهاره أعيان الحزب الجمهوري. ورأى فيه هؤلاء خطيباً قادراً على تعبئة جمهور الناخبين، واختاروه "ناطقاً أول" أو "ناطق شرف" باسم الحزب، وخطيباً مقدماً" في 1992، في أثناء مؤتمر الحزب الجمهوري الذي أطلق حملة جورج بوش الرئاسية.
حرب دينية
وفي هذه المناسبة ألقى بات بوكانان خطبة لا تزال أصداؤها تتردد إلى اليوم: "تدور في البلد حرب دينية. إنها حرب ثقافية، وليست أقل من الحرب الباردة حدة وخطراً. هي حرب في سبيل روح أميركا. وفي هذه الحرب، يقاتل بيل وهيلاري كلينتون في المعسكر الآخر"، معسكر الحركة النسوية والحركة البيئوية. وتستبق الخطبة الحرب الصليبية التي تخاض اليوم على "الووكية" (عقيدة اليقظة المراجِعة)، وهي لم تحل دون فوز كلينتون. وأسهم المرشح المستقل روس بيروت (1930- 2019) في فوز المرشح الديمقراطي، واستمال أصوات ناخبين من اليمين.
من روس بيروت إلى الـ"تي بارتي"
لم يكن روس بيروت جمهورياً، وترشح مستقلاً عن الحزبين الكبيرين، على ما عرَّف نفسه، ومنافساً المرشح الديمقراطي بيل كلينتون على قدر منافسته مرشح الحزب الجمهوري، جورج بوش. لكنه سليل تقليد تاريخي يميني رفع لواء مناهضة النخب الأميركية.
ويذكّر الرجل بعض الشيء بدونالد ترمب، فهو ملياردير يهاجم حرية التجارة، ويقيم علاقة ضعيفة و"مؤامراتية" مع الحقيقة. فزعم أن ثمة جنوداً أميركيين لا يزالون معتقلين في فيتنام (20 عاماً بعد جلاء الجيش الأميركي عن فيتنام)، واتهم الطبقة السياسية الأميركية: بالتستر على الأمر. وأمكنته خطابته الشعبوية من الحصول على 19 في المئة من الاقتراع الشعبي، أخذها من حصة جورج بوش، وتسبب في خسارته.
وفي انتخابات 1994 النصفية، أحرز الحزب الجمهوري نصراً مدوياً، واستولى على الكونغرس، وقاد الحملة نيوت غِنْغريتش. وكان يسرع إلى تهمة الخصوم بأشنع التهم، ويصمهم بالخيانة من غير تردد. فصبغ الحملة كلها، والحزب الجمهوري، بصبغة التطرف. وظهرت الميليشيات اليمينية المتطرفة في وسط المجتمع الأميركي. وفي 1995، دبر الإرهابي تيموثي ماكفاي عملية تفجير في مبنى اتحادي حكومي في أوكلاهوما سيتي، قتلت 168 شخصاً.
وشهدت ولايتا جورج دبليو بوش (2001- 2009) الحربيتان (في أفغانستان والعراق)، تراجع اليمين المتطرف. ولكن هذا عاود التقدم من جديد جراء الـ"تي بارتي" (حزب الشاي) الذي عارض أول رئيس أسود، باراك أوباما، المنتخب في 2008.
إلا أن هذه الحركة المتطرفة في محافظتها هي حركة تمرد داخلي في صفوف الحزب الجمهوري، على ما نبّهت نيكول هيمير. وشهد حزب الشاي تعبئة محمومة في سبيل الحؤول دون تسمية مرشحين جمهوريين معتدلين إلى انتخابات منتصف الولاية في 2010. وهي انتخابات فاز فيها اليمين. واستفاد لاحقاً من التحفظ عن النخب الجمهورية التقليدية دونالد ترمب، الذي انخرط في الحياة السياسية غداة هذه الانتخابات.
هذه الأطوار، القريبة والحديثة، شهدت رجحان كفة الأجنحة الأشد تطرفاً. وهي، لا شك، تندرج في مسار تاريخ مديد أفضى إلى دمج تيارات اليمين الأميركي بعضها ببعض. وفي هذا الضوء، لا يبدو الملياردير الغريب الأطوار ثمرة صدفة تاريخية، بل يبدو مولوداً من تاريخ مغرق في القدم، ويعود إلى الظهور. فالترمبية تمثِّل إرثاً سياسياً آخر، وتقاليد تعارض منذ زمن بعيد الليبرالية.
ويفترض تحرر المؤرخين من أسطورة الإجماع الليبرالي فحصاً قاسياً عن ماضي الولايات المتحدة، على ما لاحظت كيم- فيليبس فاين. وثمة موضوعات كثيرة ينبغي التدقيق فيها وإمعان النظر. من هذه الموضوعات المحافظة الدينية في أعوام 1980- 1990، والعقيدة الميلادية في أواخر القرن الـ19، وآثار انحسار التصنيع، وعلى هذا، خلصت المؤرخة إلى القول: ينتظر تصدينا لدراسته "جبل من الموضوعات".
واليوم إثر احتدام النزاع بين إيلون ماسك ودونالد ترمب تبرز مسألة اليمين الأميركي من جديد. فماسك يلوح بإنشاء حزب جديد يقارع الحزب الجمهوري على ما سبق أن فعل بيروت المستقل بعد أن انشق عن الجمهوريين ونافس المرشح الجمهوري، جورج بوش، والمرشح الديمقراطي، بيل كلينتون على حد سواء. فهو شأن خصمه ترمب يتحدر من إرث تاريخي يميني رفع لواء مناهضة النخب الأميركية. ولكن ماسك من أبناء نخب التكنولوجيا وعالم الأعمال. فهل تؤذن مواجته ترمب بفصل جديد من تاريخ اليمين الأميركي؟