Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دالي أراد تفسير لوحته الأشهر فضاعف من غموضها

"مجنون الرسم الإسباني" يطرح تساؤلاته المقلقة بين "إلحاح الذاكرة" و"الزرافة المحترقة" بنار الجحيم

لوحة "إلحاح الذاكرة" لدالي (موسوعة الفن السوريالي)

ملخص

لوحة سلفادور دالي "إلحاح الذاكرة" هي من أشهر لوحاته منذ أنجزها عام 1931، لكنها ستصبح أيضاً واحدة من أكثر اللوحات غرابة واستثارة للأسئلة من قبل جمهور عريض راح تدريجياً يتوقف عن طرح أسئلته حيالها ويستمتع بغرابتها واندماجه المقلق فيها

"كنا في تلك العشية قد ختمنا عشاءنا بتناول قطع من جبن روكفور الفرنسي الرائع، لكني بقيت أنا جالساً إلى المائدة منحنياً كنوع من الاختلاء بنفسي، وقد سرح بي التفكير حول رخاوة تلك القطعة من الجبن رخاوة مدهشة. في ذلك الحين كنت أعمل على إنجاز لوحة تمثل منظراً طبيعياً في منطقة بورت – ييغات، حيث يتميز المشهد الطبيعي عند الغسق وقبل أن تغرب الشمس كلياً بقدر كبير من نور غامر شفاف يحيل المشهد إلى رومانسية رائعة. غير أنني إذ كنت أريد للمشهد أن يكون صادماً وللصورة أن تبدو مفاجئة، لم أكن قد توصلت إلى قرار نهائي بكيف يمكنني أن أحقق ذلك. وعند تلك العشية فيما كنت أطفئ ضوء قاعة الطعام وأغادرها واتتني الفكرة التي أجابت عن تساؤلاتي. صرخت: وجدتها (!) وانصرفت إلى رسم ما لا يقل أول الأمر عن ساعتي حائط في نقاط المركز من اللوحة. وكانت ساعات رخوة ذات شكل سائل منها واحدة معلقة بصورة غريبة على غصن شجرة زيتون".

اللوحة التي يتحدث عنها سلفادور دالي هنا هي "إلحاح الذاكرة" التي ستصبح من أشهر لوحاته منذ أنجزها في عام 1931، لكنها ستصبح أيضاً واحدة من أكثر اللوحات غرابة واستثارة للأسئلة من قبل جمهور عريض راح تدريجياً يتوقف عن طرح أسئلته حيالها ويستمتع بغرابتها واندماجه المقلق فيها.

فن لعمر بأكمله

لكننا نعرف أن ما نقوله هنا استنتاجاً حول علاقة "الجمهور" بـ"إلحاح الذاكرة"، يكاد ينطبق على فن دالي بأسره وعلى العناصر التي تكون شكل اللوحات لديه، وهو الشكل الذي اعتاد أن يتخذ كذلك سمة المضمون أيضاً، ما يشكل متعة للنظر، ولكن كذلك متعة فكرية للتمعن وطرح الأسئلة التي غالباً ما تنضوي هنا ضمن إطار تلك "الغرابة المقلقة" التي كرس سيغموند فرويد كتاباً بأسره للتحدث عنها. ولم يكن صدفة أننا افتتحنا كلامنا هنا بالحديث عن لوحة "إلحاح الذاكرة" باعتبارها من الأعمال المركزية في فن ذلك الرسام الإسباني الكبير، والذي ربما كان الوحيد من بين مزامني بيكاسو ومواطنيه الذي أفلت من سطوة هذا الأخير التي "ابتلعت" معظم رسامي القرن الماضي وجعلتهم في مراتب أدنى من مرتبة صاحب "غرنيكا" و"آنسات آفينيون"، فإنه – أي سلفادور دالي (1904 – 1989) دفع ثمن ذلك، ولكن ليس من فنه، بل من شخصه، إذ كان عليه دائماً أن يصطنع نوعاً من جنون خلاق يرتبط بهذيان ما يطبعه، كي يحظى بمكان له في الصف الأول... إلى جانب بيكاسو. أما بالنسبة إلى عمله، فإنه تبدى دائماً شيئاً آخر تماماً غير ما نتج من دروب الفن التي سلكها الفنانون الآخرون. وهنا، إذا كان كثر قد رأوا بداية أن "إلحاح الذاكرة" لن تكون سوى استثناء في مسار فني سرعان ما يعود إلى الدروب الممهدة، فإنهم سرعان ما أدركوا خطأهم، إذ راح دالي، لوحة بعد لوحة يؤكد فرادة مسيرته وتواصليتها. وفي الأقل منذ لوحة "كبيرة" أخرى له هي تلك التي رسمها بين 1936 – 1937 وجعل لها عنواناً هو "زرافة تحترق"، حيث أتى العنوان، على رغم "واقعيته المفرطة" متسماً بغرابة تفوق اللوحة غرابة.

بين العنوان والمشهد

في نهاية المطاف صحيح أن ثمة في اللوحة التي تتميز بصغر حجمها (27 سم عرضاً مقابل 25 سم ارتفاعاً)، زرافة تحترق لكن هذه الزرافة التي بالكاد يلحظها المتفرج على اللوحة منذ يقع بصره على هذا العمل، لا تشغل سوى مكان ثانوي الأهمية في خلفية اللوحة. ولعلها بما تقوله، وبالشكل الذي تقوله، أقل عناصر اللوحة غرابة فهي تمثل زرافة حقيقية تحترق احتراقاً حقيقياً بنار عادية جداً على خلفية سماء فاقعة الزرقة وجبل غير شديد الارتفاع. غير أن المهم ليس هنا بالطبع. ولولا أن احتراق الزرافة قد أعار اللوحة عنوانها ربما لم يكن للناظر إليها أن يتنبه لفعل الاحتراق. المهم هو في بقية عناصر اللوحة. وتحديداً في مقدمها، حيث ينتصب شكلان نسائيان بالغا الغرابة والقوة والحضور في تركيبهما التقني التشييئي اللافت حقاً حيث، وبالنسبة إلى الشكل الأكثر حضوراً، والذي يمتد طولياً من أسفل اللوحة إلى أعلاها، تبدو الأنثى المرسومة هنا تعيش نوعاً من محاولة للتحرك إلى الأمام وسط الحيز الصحراوي الذي يمتد إلى ما لا نهاية. إنها أشبه بكينونة آلية تجمع بين سمات بشرية لا ينقصها المعاناة والألم في شرط إنساني لا يمكن تفسيره في الحيز الضيق للوحة إلا خارج ذلك الحيز، وربما في علاقة مع المكان الذي تحاول تلك الكينونة الوصول إليه. وهي محاولة تشاركها فيها كينونة أخرى لا تقل عن الأولى تشييئية من حيث ارتباط ذلك الشكل البشري بمجموعة من عناصر تشكيلية آلية، تجر وراءها في محاولته التحرك قدماً، ألسنة – أو ما يشبه الألسنة – مستندة إلى دعامات (عكازات) تمنعها من التهاوي أرضاً. ولئن كانت الكينونة الثانية تفتقر إلى تلك "الأدراج" التي تنبثق من الساق اليسرى للكينونة الأولى خالقة نوعاً من توازن يمنع الجسم كله من السقوط، من الواضح أن الكينونة الخلفية والأقل بروزاً في اللوحة، تحقق ذلك التوازن بصورة مختلفة. وفي النهاية يبدو واضحاً هنا على أية حال أن لعبة التوازن هي اللعبة المفتاح في هذه اللوحة.

في رحاب الفرويدية

والحال أنه إذا كان دالي في لوحة "إلحاح الذاكرة" قد وضع هذه اللوحة الأخيرة ضمن إطار مفهوم الزمن وعلاقة الكائن البشري به منطلقاً من تحليل الزمن كما فهمه عند برغسون، فإنه في "زرافة تحترق" وضع فنه في مضمار علمي تحليلي آخر يتعلق هذه المرة بالتحليل النفسي. ففي ذلك الحين كان الرسام الإسباني ذو الفضول المطلق، قد اكتشف الفرويدية. وهو لئن كان لقاؤه مع فرويد قد أسفر عن فشل ذريع في إقامة علاقة فكرية بين سورياليته والتحليل النفسي الفرويدي، فإن ذلك لم ينعكس على تأثره الخاص بذلك التحليل، ومن هنا، في محاولة، يغلب عليها الطابعي العلمي على أية حال، لتحليل لوحة "زرافة تحترق"، قد يكون في مقدورنا أن نتحدث هنا عن دلالة "الإدراج" الجنسية في النظريات الفرويدية... مفترضين أن دالي قد أراد في فنه المعبر عنه بهذه اللوحة تحديداً، أن يستعير تلك الدلالة كتعبير عن فرويدية أرادها حاضرة في فنه، على رغم خيبة أمله "الشخصية" تجاه فرويد.

ومن هنا نراه يتحدث حين سُئل لاحقاً عن دلالة وجود "الأدراج" بوفرة في هذه اللوحة – ولكن كذلك في عدد من لوحات له أنجزها خلال تلك المرحلة نفسها حتى وإن كان من التبسيط أن نسميها "مرحلة فرويدية" في فنه - يتحدث عن "نظرية الدمج النرجسي" التي نستشعرها لدى تأملنا كل واحد من تلك الأدراج. أما بالنسبة إلى الزرافة المحترقة، فإن دالي قال عنها حين ألحَّ سائلوه لمعرفة ما إذا كان يقصد بوجودها هناك شيئاً محدداً، قال إنه يعتقد "وفقط أعتقد أنها تعبر باحتراقها على تلك الشاكلة، عن رغبة المرأة البدئية في الحصول على مثل تلك الأدراج هي التي انتزعت منها حياتها وحيويتها، وذلك في مجابهة الرسام الذي يشعر بأن العجز يسومه أقصى آيات العذاب...".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

... وفسر الماء بعد الجهد

ومن الواضح هنا أن تلك التفسيرات التي تبرع بها دالي، أو وجد نفسه مرغماً على تقديمها، لم تقدم ولم تؤخر بالنسبة إلى مجموعة لوحات رسمها خلال تلك الفترة التي سيسميها بنفسه لاحقاً "مرحلة المنهجية الرهابية النقدية" بالنسبة إليه، حيث يعبر عن الرهاب الذي أراد أن يقول إنه يعيشه، من خلال ذلك الهذيان المزمن الممتزج بأكبر قدر ممكن من الهلوسة وجنون العظمة متضافراً مع شعور غامر بالاضطهاد... لكنه اضطهاد يمكن على أية حال مقاومته بالاستناد إلى عكازات تتخذ عديداً من الأشكال كما في "إلحاح الذاكرة" بالطبع، ولكنى بصورة أكثر خصوصية، كما في تلك الزرافة التي لا تكف عن الاحتراق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة

OSZAR »