ملخص
الهدنة أيضاً تبدأ من الأرض، من غزة تحديداً، حيث يعيش الناس تحت الركام وفي حال إنسانية بائسة بلا أفق، لذلك يجب أن تنشأ بدائل إنسانية تحت إشراف أممي محايد وقوي، داخل القطاع وبشروط تحفظ للناس كرامتهم… فلا تهدئة تقترن بترحيل، ولا إعمار يبنى على طرد السكان، هذه بديهيات لا مساومة فيها.
تحدثنا سابقاً عن هدنة طويلة تمتد لـ40 عاماً كجسر ضروري بين عنف الماضي واستحقاقات المستقبل، بين أوهام التسوية واستحالة الانتصار، وهذا الرقم ليس عابراً، بل يعكس الأمل ببلوغ لحظة رشد حقيقية، أو لحظة عبور من التيه إلى الواقعية.
واليوم، نواصل الفكرة انطلاقاً من تعليقات مقدرة ووقائع ميدانية تتشكل أمامنا أهمها مشروع "غزة ريفييرا" الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويروج له كأحد سيناريوهات ما بعد الحرب، باعتباره صيغة أميركية لخلق حال سلام، تضمن له عدم التورط في الملفات الكبرى للقضية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رحَّب ووجد في المشروع ما يستحق التأييد لحل ملف بحجم "غزة بعد الدمار"، وفي المقابل تلوح حركة "حماس"، بعد إنهاكها وعزلتها، بالاستعداد للتحول والانفتاح على الحلول المطروحة، للخروج من المأزق الذي تواجهه، أما المواقف الإقليمية، فعلى رغم وضوح اعتراضها القوي ضد (التهجير)، فإنها لم ترفض المشروع بصورة كاملة، بل بدت وكأنها تترقب شكله النهائي لا أكثر.
من هنا، فإن التمسك بفكرة الهدنة الطويلة التي تتجاوز طرفي النزاع لم تعد طرحاً رمزياً، بل ضرورة استراتيجية لإدارة هذه التحولات ومنع انزلاقها إلى تسويات مشوهة تفرض على شعب أنهكته التحالفات الدولية والحروب والخلافات وتقريباً بلا قيادة، وهي ليست هدنة لوقف الحرب فحسب، بل لبدء معركة الوعي وتوفير مساحة إنسانية يمكن البناء عليها.
وبالتأكيد فإن تنفيذ هدنة بهذا الحجم والتعقيد لا يحتمل الضبابية، فلا بد أن تصاغ في إطار إعلان سياسي واضح، تتبناه واشنطن كراعية رئيسة، وتدعمه أطراف أوروبية وعربية موثوقة، ويحدد له جدول زمني، ويلتزم مبادئ أساسية لا تقبل التأويل، ألا تمس الحقوق، ولا تفرض بديلاً عن الحل النهائي، بل كمسار لتبريد الصراع وتمكين الفلسطيني من بناء مؤسساته المدنية والسياسية وتوحيد صفه الداخلي.
الهدنة أيضاً تبدأ من الأرض، من غزة تحديداً، حيث يعيش الناس تحت الركام وفي حال إنسانية بائسة بلا أفق، لذلك يجب أن تنشأ بدائل إنسانية تحت إشراف أممي محايد وقوي داخل القطاع وبشروط تحفظ للناس كرامتهم، فلا تهدئة تقترن بترحيل، ولا إعمار يبنى على طرد السكان، هذه بديهيات لا مساومة فيها. وكذلك لا يمكن الحديث عن غزة بمعزل عن الضفة الغربية، فالتهدئة في القطاع تصبح فارغة المعنى إذا استمر زحف المستوطنات، واستمر الحصار والتضييق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كان الحديث عن الإعمار ضرورة، فإن الشرط الأساس هو فصله عن الابتزاز والولاءات السياسية، وأن يُدار عبر آلية شفافة، تحفظ المال من الفساد، وتمنح المجتمع الفلسطيني القدرة على استعادة حياته والمشاركة.
وفي مسألة "حماس" لا يمكن تجاهل التبدلات التي تعيشها، فالحركة باتت تدرك أن المواجهة العسكرية لم تعد في صالحها، لذا فإن الوقت يبدو مناسباً لإدماجها في مرحلة ما بعد الحرب ضمن اتفاق فلسطيني - فلسطيني.
هذه الهدنة ليست إقراراً بهزيمة أحد، ولا انسحاباً من الاستحقاقات، بل دعوة لفهم لحظة الانعطاف التاريخية التي نمر بها. فما بعد الحرب لن يكون أبداً كما كان قبلها، ونحن أمام مشروع أميركي على الأرض، وفي واحدة من أعقد المناطق سياسياً وإنسانياً، بلا شك سيعيد تشكيل المعادلة ويجر الوسيط الأميركي القوي لالتزامات حماية مصالحه وتهيئة فرص ازدهارها.
صحيح أن الترحيب الإسرائيلي، وعلى لسان نتنياهو، لا يفهم على أنه خطوة نحو السلام، فالرجل الذي بني تاريخه على التطرف والفساد، لا يملك سجلاً يطمئن أحداً وليس الشريك الذي نثق به، لذلك فإن الحاجة إلى ضامن خارجي قوي، كواشنطن، لا تأتي من فراغ، بل من انعدام الثقة في الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تمارس الاحتلال كعقيدة، لا كظرف، وقد تكون بعض التحفظات على الوجود الأميركي مقلقة على المدى القصير، لكنها على المدى البعيد قد تمثل صمام أمان أقوى من أي طرف محلي أو إقليمي.
نحن أمام لحظة تحول تاريخية، لا تحتمل المكابرة، ولا تصلح معها الأوهام، لحظة تستدعي الانفتاح على جميع السيناريوهات، وقراءتها بوعي استراتيجي يتجاوز مماحكات اللحظة ومماطلة الإخوة الأعداء.