ملخص
تعنُّت طرفي النزاع في السودان والإصرار على شروط ذات محصلة صفرية لا يضمن أجواءً للتفاوض أو فرصة للتنازل، فالصعوبة في وقف القتل تكمن في أن كلا الجانبين استثمر في تصعيد عسكري كبير، فكانت النتيجة أن دمرت الحرب البنية التحتية، وفرَّ كثير من السكان، وازداد عدد القتلى، بينما الأحياء يعانون أزمات الجوع والأمراض.
لم تكن دعوة المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى حوار شامل في السودان تمهيداً لحكومة مدنية هي الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد كانت هناك دعوات متعددة إلى الحوار بين قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان وقائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بهدف إنهاء الصراع المستمر في السودان منذ أبريل (نيسان) 2023.
دعا تورك أثناء الحوار التفاعلي المعزز في شأن السودان الذي عقد أخيراً على هامش فعاليات الدورة الـ58 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف المجتمع الدولي إلى بذل جهود دبلوماسية منسقة بالضغط على طرفي النزاع من أجل وقف إطلاق النار وحماية المدنيين وتقديم المساعدات الإنسانية وضمان الامتثال لحظر الأسلحة المفروض على دارفور. وهذه الدعوة بكل تفاصيلها، ظلت ترددها دول جارة وإقليمية ومنظمات دولية، ومنها ما وصل إلى هدن قصيرة، إذ لم يلتزم الطرفان ببنود كل الاتفاقات التي عقدت إلى أن وصلت الجهود إلى طريق مسدود برفض كل طرف الجلوس مع الآخر.
سبق دعوة تورك إعلان عن عقد لقاء بين البرهان وحميدتي في العاصمة الأوغندية كمبالا في يونيو (حزيران) 2024، استجابة لقرار مجلس السلم والأمن الأفريقي ودعوة الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني. وبينما وافق "الدعم السريع"، لم تصدر من الجيش أي إجابة أو رفض لهذه الدعوة.
وفي سبتمبر (أيلول) 2024 أعرب البرهان عن استعداده للجلوس مع حميدتي للحوار لإنهاء الصراع، لكنه اشترط خروج قوات "الدعم السريع" من الأعيان المدنية ومساكن المواطنين، وفي فبراير (شباط) الماضي، عندما تقدم الجيش واستعاد مواقع مهمة مثل مدينة ود مدني من "الدعم السريع"، جدد البرهان عزمه على مواصلة الحرب.
كلا الطرفين أعرب عن استعداده للتفاوض في ظروف مختلفة ودعوات مختلفة، ولكن حتى الآن لم يجلسا إلى طاولة التفاوض، وهو ما يدعو إلى النظر إليه باعتباره تكتيكاً لكسب الوقت لإعادة تجميع قواتهما والحصول على مزيد من المعدات العسكرية، وهو تكتيك كلاسيكي معروف في تاريخ الحروب، مما يعوق المفاوضات التي تسعى إلى إيقافها.
منعطف خطر
مع استمرار الصراع وتدهور الأوضاع الإنسانية حذر فولكر تورك في يناير (كانون الثاني) هذا العام من أن الحرب في السودان تأخذ منعطفاً أكثر خطورة على المدنيين بعد ورود تقارير عن مقتل العشرات بوحشية في هجمات استهدفت جماعات إثنية في ولاية الجزيرة، ومع تقارير عن معركة وشيكة للسيطرة على الخرطوم.
يستخدم كلا الطرفين حججاً وجودية، مما يجعل من الصعب للغاية البدء في التفاوض على وقف إطلاق النار، وفي السودان كثيراً ما كان الصراع جزءاً من العلاقات بين الحكومة والحركات المسلحة وشبه العسكرية في أثناء حرب جنوب السودان، وحرب دارفور، وأخيراً الحرب الحالية.
معظم محاولات حل النزاعات تؤدي إلى مزيد من الاستقطاب، إذ يلوم كل طرف الآخر ويصعد من حدة الأعمال العدائية بدلاً من تعزيز التسوية، كما تؤدي مناورات الجماعات السياسية المؤيدة لكل طرف بتنافسيتها العالية إلى تغذية المواجهات وتصعيدها بدلاً من الحلول المستدامة.
تعنُّت طرفي النزاع والإصرار على شروط ذات محصلة صفرية لا يضمن أجواءً للتفاوض أو فرصة للتنازل، فالصعوبة في وقف القتل تكمن في أن كلا الجانبين استثمر في تصعيد عسكري كبير، فكانت النتيجة أن دمرت الحرب البنية التحتية، وفر كثير من السكان، وازداد عدد القتلى، بينما الأحياء يعانون أزمات الجوع والأمراض.
وبحسب الأمم المتحدة هناك أكثر من 600 ألف شخص على شفا المجاعة مع انتشارها بالفعل في خمس مناطق، بينها مخيم زمزم للنازحين في شمال دارفور، وكلما طال أمد الحرب كان الطريق إلى الحوار والمفاوضات محفوفاً بكثير من التنازلات، مما يشكل تحدياً للقادة العسكريين.
الإفلات من العقاب
لعقود طويلة استخدمت أطراف الصراع في السودان غطاء الحروب للقتل والعنف بأنواعه بما فيه العنف الجنسي والتشريد ونهب الممتلكات، والإفلات من العقاب هو العقبة الأكبر أمام تحقيق العدالة وتعويض الضحايا والناجين من انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الناتجة من الحرب، ففي حرب دارفور مثلاً لم تتم محاسبة سوى عدد قليل من الجناة، وكان اعتقال قائد ميليشيات الجنجويد علي كوشيب الذي يحاكم الآن في المحكمة الجنائية الدولية إثر اتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور خلال عامي 2003 و2004، وعلى نحو مماثل، كان استدعاء بحر إدريس أبو قردة الذي أثبت براءته.
ويركز الناجون والمجتمع المدني على هذا البند تحديداً لأن الإفلات من العقاب يغذي عدم المساواة، ويؤثر بصورة غير مناسبة على الفئات الأكثر ضعفاً، ويقوض الثقة في مؤسسات الدولة، كما أنه في أثناء الحرب الحالية، قلل من فرص التفاوض ووقف إطلاق النار والدخول في هدن للسماح بمرور المساعدات الإنسانية.
الآن توجد روايتان صارختان لكل من طرفي النزاع أسس لها الإفلات من العقاب، بينما لا تسمع أصوات الضحايا مما يقوض حقهم في الاعتراف بما وقع عليهم، ولهذا السبب فإن تعزيز قدرة الضحايا والناجين على مكافحة الإفلات من العقاب من خلال عمليات العدالة الانتقالية الرسمية وغير الرسمية تبدو وكأنها مهمة مستحيلة، لولا تصميمهم على إنجاح العدالة من خلال توحيد القوى لتحويل المد ضد الإفلات من العقاب لصالحهم.
حذر خبراء أمميون مستقلون تابعون لمجلس حقوق الإنسان في جنيف من أن الناجيات من العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان خلال الحرب يفتقرن إلى الرعاية الكافية، إلى جانب استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان والمستجيبين الأوائل الذين يوثقون الانتهاكات ويقدمون الخدمات للناجين، ودعوا إلى إنهاء العنف وتحسين الوصول الإنساني إلى السكان المتضررين والتحقيق السريع والفعال في انتهاكات حقوق الإنسان، ونبهوا إلى أنه لا يزال ما لا يقل عن 6.7 مليون شخص معرضين لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان، حيث تكون النساء والفتيات النازحات داخلياً واللاجئات والمهاجرات عرضة للخطر بصورة خاصة.
أكبر كارثة
هذا التركيز من قبل المفوض السامي فولكر تورك الذي وصف الأزمة السودانية بأنها "أكبر كارثة إنسانية في العالم"، ومن غيره كذلك، فلا تنحصر الأزمة في وقف الحرب فحسب، وإنما في ضرورة تحقيق انتقال سياسي شامل يحترم حقوق الإنسان ويضمن المساءلة، ومع ذلك تواجه هذه الجهود تحديات كبيرة بسبب استمرار الصراع وتصاعد العنف، مما يعوق إحراز تقدم نحو حكومة مدنية مستقرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل النداءات السابقة حملت في طياتها أهدافاً تمثلت في وقف الحرب كأولوية قصوى لمنع مزيد من فقدان الأرواح وتفاقم الأزمة الإنسانية والدمار، ومن الأهداف أيضاً إعادة الانتقال السياسي إما باستئناف الفترة الانتقالية التي توقفت بالإجراءات التي فرضها البرهان عام 2021، وإما بالتمهيد لتشكيل حكومة مدنية يتم التوافق عليها، وهذه الخطورة تستلزم وضع دستور انتقالي عوضاً عن الوثيقة الدستورية التي ألغى البرهان العمل بها، وكذلك تعزيز حقوق الإنسان بالتركيز على المساءلة والعدالة لمنع تكرار انتهاكات حقوق الإنسان من قبل طرفي النزاع.
يرى مؤيدو الجيش أن مقترح المجتمع الدولي إجراء مفاوضات في شأن إنهاء الحرب السودانية، يعني التنازل عن معايير القانون الدولي وقواعد السيادة الوطنية، وحول ما إذا كان من الممكن التفاوض مع قادة قوات شبه عسكرية، وأن محصلة التفاوض ستؤدي إلى تقسيم السودان على أسس إثنية.
وفي الوقت ذاته يرى مؤيدو "الدعم السريع" أن هذه القوات وقائدها معترف بها وفق القانون الذي سنه الرئيس السابق عمر البشير عام 2017، وكانت على وشك أن تكون جزءاً من الجيش لولا الاختلاف على بعض التفاصيل، وهو ما أدى إلى أزمة الاتفاق الإطاري في ديسمبر (كانون الأول) 2022، ثم اندلاع الحرب بعده بأشهر قليلة.
تحديات ماثلة
مع كل النداءات بعقد حوار سوداني يفضي إلى مفاوضات، لكن يكمن عديد من التحديات منها، الأول، غياب الإرادة السياسية، فالجيش و"الدعم السريع" لم يظهرا حتى الآن استعداداً جاداً للحوار، والقوى المدنية السودانية منقسمة بشدة، مما يجعل من الصعب توحيد موقفها للضغط على العسكريين.
والتحدي الثاني هو تصاعد النزعة العسكرية، إذ يصر كل طرف على تحقيق مكاسب عسكرية قبل أية مفاوضات. والتصريحات الأخيرة للبرهان وحميدتي تؤكد أن الطرفين يركزان على التصعيد العسكري، وليس التفاوض. فكل طرف يعتبر أن الآخر يناور ولا يهدف إلى سلام حقيقي. لذلك لم يصمد اتفاق وقف إطلاق النار، الذي كان الهدف منه وقف القتل والتصعيد العسكري المستمر.
أما التحدي الثالث فهو أن الدول الإقليمية أو الغرب على رغم دعمها الحوار، لا تمتلك أدوات ضغط كافية على الأطراف المتحاربة لفرض وقف إطلاق النار. والرابع أنه في ظل الوضع الإنساني المتدهور والنزوح الجماعي وانتشار المجاعة وانهيار النظام الصحي، إضافة إلى ما أشارت إليه "هيئة محامي دارفور" أنه في ظل استمرار الخراب والدمار في المناطق المتأثرة بالحرب، هنالك تعدين وتصدير للذهب بمناطق جنوب دارفور بعمالة من روسيا وتنزانيا وسوريا والمغرب، إضافة إلى السودانيين الموجودين بمناطق مناجم الذهب، مما يعني تمويل استمرار الحرب.
أما التحدي الخامس فهو عدم الامتثال لحظر الأسلحة المفروض على دارفور، وقد مدد مجلس الأمن الدولي، حتى الـ12 من سبتمبر المقبل نظام العقوبات المعمول به منذ عام 2005، والذي يخص دارفور ويشمل حظر الأسلحة وعقوبات تجميد الأصول وحظر السفر التي تطاول ثلاثة أشخاص.
هذه التحديات تجعل أية تسوية سياسية أكثر صعوبة، إذ تحتاج إلى استقرار ميداني لضمان تنفيذها.
سيناريوهات محتملة
هناك عدد من السيناريوهات المحتملة: الأول هو الاستجابة للدعوة وانطلاق حوار شامل يمكن أن يؤدي إلى وقف موقت للقتال، لكن نجاحه يتطلب ضغطاً دولياً وإقليمياً كبيراً على طرفي النزاع، ويعتمد على تقديم ضمانات حقيقية للأطراف المتصارعة.
والسيناريو الثاني يمكن أن تقود الضغوط الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ودول الخليج والجوار الإقليمي إلى تسوية جزئية، لوقف إطلاق نار محدود. هذا السيناريو يمكن أن يضمن نوعاً من الاتفاق، لكنه سيكون هشاً ولا يحسم الحرب، مما يبقي احتمال تجدد الصراع قائماً. أما السيناريو الثالث، فهو استمرار الصراع ورفض طرفيه للحوار، وهو ما يحدث حالياً ويرجح استمراره، فعندما يشعر أحد الطرفين أنه يستطيع تحقيق مكاسب عسكرية، يتراجع مباشرة عن أية بادرة وتوجه نحو المفاوضات، وكل طرف يسعى إلى تحقيق مكاسب ميدانية قبل أي مفاوضات، مما يجعل الحوار غير واقعي في المرحلة الحالية.
ومع أن هذا الوضع يصعب معه تحويل الجهود الدبلوماسية إلى اتفاقات ملموسة قادرة على دعم السلام، لكن بمرور الوقت قد يكون هناك "إجهاد حربي" متزايد، فالملامح العامة تشير إلى أن هذه حرب استنزاف، تخاطر بأن تصبح طويلة الأمد، وكلما طال أمدها، أصبح من الصعب على المجتمع الدولي الحفاظ على خط ثابت مشترك، مما يجعل المفاوضات الدبلوماسية صعبة. فقبل بدء أية مفاوضات، لا بد من تحديد معاييرها ونطاقها، ومع عدم اعتراف أي من الطرفين بأنه معتد، وحتى لا يقلل ذلك حوافز التفاوض، فلا بد أيضاً أن تقدم المطالبة بالمسؤولية عن جرائم الحرب، والتعويضات، وانتهاكات قوانين الحرب.